الحياة الخارجة من الموت
469 يوماً وإرادة التحرّر والحياة تنطق بها روح المقاومة عن العالم أجمع الذي صرخ خيرة بناته وأبنائه في طرقات المعمورة ليقولوا لا للإبادة الاستعماريّة المنشأ والتمويل والتنفيذ، ويرفضوا كلّ إمبراطوريّة وكلّ إبادة. 469 يوماً وقلب الإنسانيّة ينتفض ويحتجّ ويدين والإرادة الإنسانيّة تصارع الحديد والنار. 469 يوماً والجسد الفلسطينيّ يقاوم عن العالم أجمع ويكشف للعالم أجمع حقيقة الوحشيّة الاستعماريّة في كلّ زمن وحين، ويفضح الوجه الحقيقيّ للرأسماليّة حين تقف أمامها الإرادة الإنسانيّة لترفض استغلال الجسد والروح الإنسانيّيْن، لترفض تحويل الإنسان إلى شيء يُراد نفيه من الحياة، إلى شيء يُسجن ويُضطهد ويُهَدَّد ويُرهَّب ويُستباح ويُطوَّع ويُقتل، ويُباع ويُشترى ويُباد لجني الأرباح من كهنة الرأسماليّة، وخدّامها الإقليميّين.
469 يوماً والجسد الفلسطينيّ يمشي في جلجلته حاملاً على كتفيه أوجاع العالم أجمع الذي يقتات على جسده الوحش الاستعماريّ. 469 يوماً والموت يمشي خلف الجسد وينتظر اللحظة الأخيرة ليعلن نفسه سيّداً على الشعب الفلسطينيّ، سيّداً على الجسد المدمّى، سيّداً على الجبين المكلّل بالأشواك والنار، سيّداً أخيراً بلا منازع على الإرادة التي تجرّأت وقالت «لا». وحين ارتفع الجسد الفلسطينيّ على صليب الإبادة وبكته الأرض التي تمزّقت أمّاً ثكلى، حين لم يعد بالإمكان التمييز بين الموت والجسد، في نهاية إعلان العالم عن نهاية الحياة الفلسطينيّة التي غرقت في عتمة القتل والوحشيّة، التي نزلت إلى الموت، وطأ الجسدَ الفلسطينيّ بموته الشهاديّ الموتَ الإباديّ، وقفز النصر على الموت خارج الموت وعداً بالحرّية المنتصرة، وشهادة أنّ الحياة أقوى من الموت، فكسرت المقاومة شوكة الموت بالموت، وكانت شهادة أنّ الكلمة الأخيرة التي نعرف أنّها ستكون في نهاية الزمن كلمة الله، كلمة الحياة، تتجلّى في هذا الزمن في شهادة الذين يقولون لا لتحويل الإنسان إلى شيء، في شهادة الذين يقولون لا للاستلاب، لا للاستعباد، لا للخضوع، لا للكراهية، لا للاستعلاء، لا لسلطة المال على الروح، لا سلطة للوحشيّة على الضمير، لا إله إلاّ الله، ولذلك لا سلطة على الإنسان إلا سلطة الحبّ والحرّية، وهما الغالبتان.
تلك هي الشهادة الفلسطينيّة للقرن الجديد، تلك هي شهادة الذين قالوا معهم «لا» بألف طريقة وطريقة، ذاك هو الدرس الذي احتاج العالم أن يصحو عليه من الخدر الذي انتشر في جسمه مع نهاية الأحلام منذ وضع الاستعمار الأميركيّ يده على رقبة العالم وقال لنا استريحوا وكلوا واشربوا وافرحوا، وكانت الوليمة جسداً، وكان الشراب دماً، وكان الفرح مغادراً، وكانت الأرض مغلقة. اليوم فتحت غزّة لنا العالم على المدى، وشرّعت أبواب الأحلام من جديد، وقالت إنّ الذين يحبّون الحياة يحبّونها حتّى الشهادة كي لا تصير الحياة عصفاً مأكولاً، موتاً يرتع في القلب، وكابوساً يُغلق التاريخ.
قام النصر ولم يعد العالم في القبر. من كان مُحبّاً للحقّ، فليتمتَّع بهذا الخبر البهيّ. من تحمَّل مشقَّة الإبادة، فليشارك الآن في الفرح. مَن عَمِلَ من الساعة الأولى لوحشيّة آلة القتل، فليتنفّس اليوم الصعداء. مَن شارك النضال متأخّراً، فليعيِّد شاكراً. مَن وافى المناضلين بعد تردّد، فلا يتردّد بالبكاء من الفرح. مَن تخلَّف وخاف ثمّ انضمّ إلى موكب الحالمين بالعدالة، فليتقدَّم إلى مائدة الحياة.
مَن لم يَصِل إلاّ ببطء، فلا يخجل من إبطائه فها هو الآن حرّ. إنَّ الحرّية سخيّة تُفرحُ العامل الأخير كالعامل الأوّل، تُعطي نفسها لذاك وهذا، تقبل الأعمال وترتاح إلى النيَّة، تقدِّرُ العمل وتمتدح العزم. فليشارك بالفرح الفلسطينيّ المحبّون المناضلون، الأوَّلون والآخرون، الأغنياء والفقراء، المصمّمون والمتردّدون، المحاصرون والذين لم يُحاصَروا. مائدة الحرّية والحياة حافلة، والفرح كبير، فلا يبقَ أحدٌ وحيداً أو جائعاً، فقد ظهرت تباشير التحرّر الكامل. ولا يخشَ أحدٌ الموتَ، لأنّ من غزّة ولبنان واليمن حرَّرتنا شهادةُ الحياة والحرّية.
أخمدَ الجسدُ الفلسطينيّ أنفاسَ الموت حين قبضَ الموت عليه، ومرمر المحتلّ، تمرمر المحتلّ لأنّه باطل. تمرمر لأنه هزئ به. تمرمر لأنه بات يلفظ أنفاسه الأخيرة، تمرمر لأنه قد رُبط. هاجم جسداً فصادف حياة وإرادة لا تموتان، هاجم أرضاً فوجدها سماء. هاجم ما رأى، فسقط من حيث لم يرَ.
أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا جحيم الاستعمار؟ صار الفلسطينيّون صورة المسيح، صورة الحياة والحرّية؛ أنت صُرعتَ وصارت غزّة باكورة المتحرّرين.