الطوفان بين عالمَين
يدخل العالم اليوم مرحلة البرزخ الفاصلة بين حياة الأرض وأبدِ الجنة والنار. منطقتنا تحديداً تعيش حالياً حالتَي الحياة الأبدية المتناقضتين في آنٍ. في الطقوس الأفريقية رقصة تجسّد الحالة العالقة بين السماء والأرض، وصلت إلى الكاريبي عبر سفن الرقيق، قبل أن تشتهر في ستينيات القرن الماضي في شمال القارة الأميركية وتنتشر حول العالم من خلال الهيمنة الثقافية الأميركية المستمرّة إلى يومنا هذا. في هذه الرقصة، يستعرض الراقص ليونة أطرافه ومتانة عضلات بطّتَي رجليه واستقامة جذعه عندما يخطو تحت عصا تقترب تدريجياً من الأرض، من دون أن يمسّ العصا أو الأرض، والأهم من ذلك من دون أن تخذل خطواته الإيقاع الموسيقي لرقصة «الليمبو»، أو اللامكان الواقع بين عالمَين.
في ثقافتنا المحلية ورقصاتنا التراثية، انتشرت في السنوات الماضية فيديوات لراقصي دبكة يشاغبون لـ«تهدر خبطة قدمهم» على الأرض والسقف والحائط الفاصل بينهما في آن ملتفّين حول عصا «الليمبو» وقوانين الجاذبية في عالمنا الأرضي. لكن وفقاً لشعر نزار قبّاني «لا توجد منطقة وسطى… ما بين الجنة والنار»، لذا وجب الاختيار، وهو «يرضى عن أيّ خيار». «يكثّر خيره» ويكثر من أمثاله. وفعلاً تتصرّف جهاتٌ اليوم وكأنّ القدر أنعم عليهم فجأة بخيار الجنّة، بعدما كان البعض يفرض عليهم «جهنّم» على عكس إرادتها. يعيب هؤلاء فرح المحتفين بصمود أسطوري مَعِيش، بينما هم ينتشون ويرقصون على ألحان «الزنّانة» لجنّة متوهّمة وعدوا أنفسهم بأنّها قادمة لتكافئ تلكؤهم عن فعل أي شيء ذي معنى في وجه حرب إبادة وقعت على أرضهم. ثنائية الخيارات المفترضة تخفي واقع اللاخيار المفروض على المشهد المتداخل والمتشعّب والعالق بين عالمَين في غزة والشام وبيروت، وصولاً إلى البيت الأبيض الذي يدخل اليوم في عهد دونالد ترامب الثاني.
المشهد الفلسطيني هو الأكثر وضوحاً، وهو يجب أن يكون كذلك، لأنه إن لم يحسم ما يحصل هناك منذ قرنٍ، وخاصة طوفان الأحداث في غزة على مدى سنة والأشهر القليلة الماضية، خيارك بين النضال من أجل التحرّر والتحرير أو الرضوخ لقصاصٍ أبديٍّ على يد قوى استعمار وحشية، فإن فهمك للجنّة والنار ملتبس. لذا كانت وتبقى فلسطين هي البوصلة والقضيّة المركزية، وأيّ خيار يتسامح مع من يرتكب الإبادة أو يسامح المتلكئ عن المسؤولية أو يمسح إنجازات من وقف وواجه وصمد وانتصر ليس خياراً.
الأمر نفسه ينطبق على سوريا ولبنان لمن أراد الوضوح، لكن هناك من يختبئ من الوضوح خلف غشاوة مفتعلة. غشاء الشام حجّته بكارة الحكم فيها، وهذه حجة واهية وتصبح أوهى مع انتفاء شهر عسل حكّام دمشق الجدد. يسهل هتاف «يا غزة حِنّا معك للموت» مع دخول اتفاقية وقف إطلاق النار حيّز التطبيق. الأصعب هو الإجابة على ماذا ستفعل لتنصر فلسطين اليوم وغداً وفي المعركة المستمرّة حتى تحريرها. ويخسر الهتاف صداه حتماً حين يصدر و«إسرائيل» تقضم هضباتٍ وجبالاً مطلّة على بادية الشام وساحلها. لكن في بلد خارج من جحيم الاستبداد والاقتتال إلى جحيمٍ لم تتّضح معالمه بعد، قد يبدو للمتفائل الذي يريد أن يفرح ويرقص أن «حتّى نارك جنّة». لا شكّ أن المشهد السوري هو الأكثر هشاشة حالياً، وللأسف خيار الجنّة ليس متاحاً على المدى القريب إلا في دفاتر الأشعارِ.
في لبنان تترجم الأشعار شعارات على لوحات إعلانية تسطّر جوانب طرقاته وتلهي سائقيه عن وضع الزفت تحتهم. «جنّة الأطفال منازلهم» هي العبارة البروتوكولية الدبلوماسية التي يرفقها أصحاب الفرح بدعواتهم لئلّا يقولوا لمن لديه أطفال من بين المدعوّين بأن بكاء أطفالهم غير مرغوب فيه في حفلة فرح. جنة أطفال لبنان دولتهم. فالدولة اللبنانية أثبتت عبر تاريخها أنها أشبه ما يكون بذاك اللامكان الواقع بين عالمَين. «لكن هذه المرّة غير»، يردّد الساذج المؤمن والمحتفي بثنائي «الجنرال» و«البيك» القادمين «من خارج المنظومة الحاكمة».
إن انطبق وصف «من خارج المنظومة الحاكمة» على أيٍّ من الوافدين الجدد إلى مشهد الحكم في أعقاب الطوفان، فهو ينطبق على دونالد ترامب العائد إلى واشنطن رغماً عن المنظومة الحاكمة فيها ومحاكمها والقنّاص الذي تسلّق سطح ذاك الاسطبل في بنسيلفانيا الصيف الماضي. ترامب هو من بات يحمل عصا الليمبو الأميركية لمن يودّ أن يطوف تحتها. رقصة الليمبو رقصة تحدّ فردي، وفي كل جولة منها يضيق الفضاء الفاصل بين العصا والأرض. هذا في الظروف العادية، لكن الجميع يعرف أن ترامب ليس عاديّاً ولا يلتزم العادات. كلّ الحظ لمن سيحاول الرقص على إيقاعه. لكن بكل وضوح، في فلسطين وسوريا ولبنان، الرقص تحت عصا الإبادة الأميركية لم يكن يوماً خياراً، ليس قبل الطوفان، وحتماً ليس خياراً بعده.