مفارقات وإشكاليات و…تجاوز
سعد الله مزرعاني – وما يسطرون|
طرحت الأزمات المتلاحقة، في لبنان، وخصوصاً في منطقة الشرق الأوسط عموماً، مجموعة من الأسئلة أو التساؤلات الأساسية، بل الكبرى: لجهة جوهر الصراع، وإستراتيجيات الأطراف فيه، والمحصلات والنتائج، وكذلك الدروس والعبر. والأزمات المشار إليها هنا، هي أزمات متنوعة: اقتصادية وسياسية وأمنية… وهي، بما برز منها أو سيبرز لاحقاً، ذات طابع وجودي يتصل بمصائر بلدان المنطقة، وبنيتها ووحدتها وثرواتها وعلاقاتها… وبالتالي، باحتمال حصول تطورات دراماتيكية بشأن العناوين المذكورة، ما قد يؤدي إلى إحداث تحوّلات وتبدلات ذات طابع جغرافي وديموغرافي وجيوسياسي… تقترن بذلك مخاطر جمّة، بل مقلقة ومهددة لفرص بقاء بعض البلدان والكيانات، ناهيك عن فرص تقدمها وتطورها في مواجهة تحديات العصر وصراعات كتله الكبرى. وهي تحديات وصراعات تجعل الحقوق الطبيعية في تقرير المصير والسيادة والأمن والاستقرار والتنمية… مسائل تقررها القوى الكبرى بشكل راجح.
تقف الولايات المتحدة الأميركية في مقدمة القوى التي تمارس دوراً كوسموبوليتياً متميزاً، وحتى متفرداً، في الانتقاص من الحقوق الأولية الطبيعية المذكورة للدول وللشعوب. وهي تتوسل كل السبل من أجل ممارسة السيطرة المباشرة والهيمنة المؤثرة في كل القارات والبلدان. لا تفعل واشنطن الآن، في مواجهة ما يتهدد نفوذها الكوني من منافسة ومعارضة وأزمات، سوى اللجوء إلى اعتماد أشكال قديمة جديدة من الأساليب والسياسات والعلاقات التي تجنح إلى استخدام القوة والضغوط والحصار… أو التهديد بها. يحصل ذلك بشكل مباشر، أو غير مباشر، أو الاثنين معاً، كما في حرب أوكرانيا. كذلك في الشرق الأوسط حيث يشكل الكيان المغتصب لفلسطين، هراوة قتل وإرهاب وترويع وعدوان ومجازر بلغت حد الإبادة في حرب غزّة، وفي حرب الضفة الغربية ولبنان، بدرجة أقل.
يحصل ذلك في هذه المرحلة، بعد حقبة من «الحرب الناعمة» التي امتدت لحوالى عقدين من الزمن. وهو يقترن بمحاولات من الارتداد على بعض مبادئ «العولمة» التي سادت في مرحلة القطبية الثنائية و«الحرب الباردة»… ثم كانت إستراتيجية «الحروب الاستباقية» ووضع قوة أميركا العسكرية في خدمة مشاريع سيطرتها وهيمنتها على معظم العالم. الرأسمالية الإمبريالية الأميركية، هي قوة الاستغلال الأعظم في التاريخ، وربما ذروته. وهي تلجأ اليوم، إلى تغذية أشكال من القهر والتسلط بوسائل عنصرية وفاشية موجهة ضد شعوب، بل قارات، كاملة. الرئيس ترامب، فتاها «الأغر» والأرعن، يتزعم موجة تطرف عنصري في كل دول المتروبول القديمة ذات التاريخ العريق في الممارسات الاستعمارية التي سادت قروناً. الشرق الأوسط شكّل، ويشكل الآن، الساحة الأساسية، في إعلان المشاريع وفي اختبارها. أطلق ترامب، في ولايته الأولى، نسخته الخاصة للشرق الأوسط تحت عنوان «صفقة القرن». تميّزت آنذاك بتبنٍّ مفرط للأطماع الصهيونية على حساب حقوق الشعب الفلسطيني! بعد فشل «الحروب الوقائية» وخيباتها مع بوش الابن مطلع الألفية الثانية، عبر محطتي غزو أفغانستان والعراق خصوصاً، تغيّرت الأساليب فكان «الربيع العربي».
وهو كلمة حق أُريد بها باطل. أمّا النتيجة، فكانت إشاعة فوضى غير «خلاقة» في عدد من البلدان كان آخرها السودان. أزمات تلك البلدان ما زالت جرحاً نازفاً في كيانها ومصالح شعوبها وسيادتها وأبسط شروط تقدمها وتنميتها. هذا ينطبق على العراق وليبيا وسوريا واليمن ولبنان. أمّا البلدان الأخرى، فهي ترزح تحت سيطرة أميركية شاملة. وهي سيطرة سياسية واقتصادية وأمنية تحرسها القواعد العسكرية والأساطيل والجيوش، وتسير في ركابها أنظمة ذات طابع استبدادي مطلق (في الملكيات والإمارات)، أو ديكتاتوريات تقودها جيوش هي، في الإستراتيجية الأميركية، عامل أصيل أو بديل لاستمرارية التبعية لواشنطن في المنطقة وفي العالم. إن الشرق الأوسط الآن، على المشرحة الأميركية والصهيونية عبر مشاريع معلنة للنيل من شروط وفرص استقلاله وسيادته وسيطرته على ثرواته ومصائره. وهو يعاني من فائض ضعف في حصانته ضد الاستباحة والاجتياح، وخصوصاً بسبب تبعية معظم حكامه لواشنطن، وبسبب ضراوة العدوان ووحشيته الذي استهدف منذ «طوفان الأقصى» قواه المناوئة لواشنطن وتل أبيب.
يقع لبنان في قلب هذا الصراع. أزمات متنوعة، قد ضربته بقوة، وخصوصاً في السنوات الأخيرة. الأزمة الاقتصادية، وهي أزمة غير مسبوقة، ألحقت بالشعب اللبناني وبالبلاد، على يد جماعة التحاصص والنهب من ممثلي كبار شرائح البرجوازية التابعة، خسائر وكوارث هائلة. نسبت واشنطن مسؤولية الأزمة الطاحنة إلى الطرف الأقل انخراطاً في السلطة وفي الحصص. كل ذلك من أجل النيل من دور المقاومة ضد العدو الصهيوني وضد السياسات الأميركية. بقيت الأزمة من دون علاج برعاية، أيضاً، من واشنطن كما في مرحلة نشوئها وتعاظمها.
بعد «طوفان الأقصى» أضيفت أزمة جديدة هي انتقال الصراع مع العدو وداعميه إلى طور جديد في مواجهة مشروعهم لتصفية القضية الفلسطينية لمصلحة توسّع المشروع الصهيوني وتمدّده كما عبّر عنه نتنياهو بشكل خاص.
تعاقبُ أزمتين، بهذا الحجم، ولَّد أضراراً سياسية واقتصادية كبيرة في المرحلة الأولى، وأضراراً هائلة عسكرية وبشرية ومادية، في مرحلة «إسناد» المقاومة في مواجهة حرب الإبادة التي شنّها العدو وحُماته ضد الشعب الفلسطيني في غزة.
تتصف الحملة الأميركية الإسرائيلية في فلسطين ولبنان وأخيراً في سوريا، بطابعها العدواني الذي تخطى كل الضوابط والأعراف في الحروب وفي النزاعات، وبأهدافها الشاملة التي تتهدّد كل المنطقة. في هذا السياق، يستمر العدو الآن، بعد اتفاق وقف إطلاق النار مع لبنان (في 27 تشرين الثاني الماضي)، وبسبب خداع وانحياز «الوسيط» الأميركي، في مواصلة الحرب من طرف واحد. ذلك لا يقلل أبداً من البطولات المدهشة والإنجازات الباهرة التي تحققت في المقاومة في غزّة والضفة الغربية والجنوب اللبناني… إلى اليمن الذي فاجأ الجميع بصلابة موقفه وشجاعة قادته. لا شك أن المعركة قاسية. وهي، بالتأكيد، مستمرة بفضل تصميم الشعب الفلسطيني وتضحياته ومقاومته ودعم حلفائه، إلا أن أسباباً جوهرية تدفع إلى الاستنتاج بأنه لا بد من مراجعة جادّة للأداء في المرحلة السابقة، ما نعتقد بأنه سيقود إلى مقاربات جديدة تحت عنوان مواصلة وتفعيل مواجهة العدو وشركائه.
رغم إجرام العدو وحماته، فهو قد تكبّد خسائر هائلة على المستويات العسكرية والسياسية والأخلاقية بفضل بطولات وتضحيات تليق فقط بأصحاب القضايا العادلة والإيمان الذي لا يتزعزع بالحق وبالنصر مهما كان الثمن!