أولويات الصهاينة: القدس والجولان والليطاني
بدر الحاج – وما يسطرون|
هنالك وقائع في الصراع مع الصهاينة قد تكون غائبة عن كثيرين، منها أن قادتهم يؤمنون بأن أرض الجولان هي بأهمية القدس التي يعتبرونها عاصمة لدولتهم، ويرفضون الحديث عن مستقبلها في أيّ محادثات «سلام». ومنذ قيام دولة إسرائيل، كان موضوع الاستيلاء على الجولان في مقدّمة الأهداف التي يريد الصهاينة تحقيقها. وكانت الوكالة التلغرافية اليهودية قد نقلت عام 1968 عن ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء صهيوني، تصريحاً جاء فيه أنه لا يمانع بإعادة جميع الأراضي المحتلة بعد حرب 1967 مقابل السلام، لكن باستثناء القدس والجولان.
هذا الموقف كرّره بن غوريون في آخر مقابلة أجراها معه توم سيغيف في مستعمرة سيدي بوكر في النقب بعد تقاعده واستغرقت ست ساعات. ويذكر سيغيف في كتاب بعنوان «دولة بأي ثمن: حياة دافيد بن غوريون» (بالإنكليزية، لندن 2020) أن بن غوريون أعرب له «عن خيبته لأن آماله لم تتحقق بعد نهاية الحرب عام 1948 والتي لخّصها بالاستيلاء على دمشق ومناطق جنوب سوريا والوصول إلى الليطاني في جنوب لبنان». ويضيف سيغيف نقلاً عن بن غوريون أنه لم يفقد الأمل بذلك مستقبلاً بدليل أنه رفض أن يتضمن إعلان استقلال دولة إسرائيل نصاً يبيّن حدود الدولة، وعندما أبلغه رجل القانون أن هذا الأمر مستحيل، كان جواب بن غوريون «كل شيء ممكن».
إذاً، أحد أبرز المؤسّسين لدولة إسرائيل، ديفيد بن غوريون، اعتبر أن الجولان هو بأهمية القدس بالنسبة إليه، لذلك وضع نصب عينيه منذ البدايات ليس السيطرة على مرتفعات هضبة الجولان فقط، بل على مناطق في جنوب سوريا أيضاً. وهذا ما سبق أن حاول تنفيذه عملياً البارون إدمون دو روتشيلد عندما قام بتمويل عدة مستعمرات أقيمت في حوران بلغت مساحتها ما يقارب الـ 100ألف دونم. وحاول الصهاينة عدة مرات، كما تكشف التقارير والوثائق الدبلوماسية الفرنسية، نيل موافقة سلطات الاحتلال الفرنسي للاستيطان في سوريا، وفي حوران والجولان بشكل خاص، إلا أن محاولاتهم فشلت.
يضاف إلى ذلك أن السرديات الدينية التي يكررها اليوم الكتّاب والمؤرّخون الصهاينة تؤكد أن الجولان وحوران ومساحات شاسعة أخرى من أرضنا تعود إلى ما يسمونه «أرض الميعاد». وقد سبق لأبي الحركة الصهيونية ثيودور هرتزل أن حدّد بوضوح حدود الدولة المُزمع إقامتها بقوله في الجزء الثاني من مذكّراته (صفحة 711) بأنها تشمل المساحة الممتدة «من وادي مصر إلى الفرات».
والواقع أن تطورات الأحداث بعد تأسيس الدولة العبرية وإقامة منطقة منزوعة السلاح بين سوريا وفلسطين، وتوقيع اتفاقية الهدنة عام 1949، لم توقف محاولات الصهاينة الاستيلاء على الجولان. ففي البداية اعتبر الصهاينة أن المنطقة المنزوعة السلاح على الحدود تعود إلى فلسطين وفق قرار التقسيم. لذلك صعّدوا اعتداءاتهم على تلك المنطقة، وبالنتيجة كان لهم ما أرادوا، إذ بادروا إلى تنفيذ برنامج تجفيف بحيرة الحولة وثبّتوا سيطرتهم عليها، وحصلوا على ما مقداره مئة مليون متر مكعب من المياه، وفي الوقت نفسه هجّروا أبناء القرى الفلسطينية في تلك المنطقة الخصبة في نيسان 1951.
لاحقاً، نشر العديد من المؤرخين والصحافيين والكتّاب الصهاينة أقوالاً لجنرالات قاتلوا الجيش السوري على الجبهة السورية ما بين مطلع خمسينيات القرن الماضي وحتى حرب حزيران 1967، وتتلخّص أقوالهم بأن إسرائيل تعمّدت استفزاز السوريين خلال تلك الفترة بهدف الاستيلاء على الجولان. وكان من بين أولئك الجنرالات موشي دايان الذي قاد الجيش على الجبهة السورية، فقد اعترف في مقابلة أجريت معه عام 1976 بأن 80% من الاشتباكات التي كانت تجري مع الجيش السوري بادرت بها إسرائيل لتوريط السوريين في معركة تمهيداً للاستيلاء على الأراضي السورية وتحويل منابع نهر الأردن والحيلولة دون استفادة سوريا منها.
كان التوسع الصهيوني الكبير في حرب حزيران 1967 قد أفسح المجال للصهاينة بالسيطرة على 1250 كيلومتراً مربعاً من أراضي هضبة الجولان التي تبلغ مساحتها 1750 كيلومتراً مربعاً. وبعد حرب 1973 جرى اتفاق لفصل القوات واستعادت سوريا 8% فقط من الأراضي التي سبق لإسرائيل أن احتلتها عام 1967. وأقدمت القوات الإسرائيلية قبل انسحابها على تدمير معظم القرى الجولانية وبصورة خاصة القنيطرة عاصمة الجولان، وكتبت على جدران المنازل المدمّرة: «تريدون القنيطرة، سنعطيها لكم، ولكن مدمّرة». كما أدّت ممارسات الاحتلال إلى تشريد أهالي الجولان، فنزحوا عن قراهم وتوجّهوا نحو دمشق. وهكذا ثبّت الاحتلال وجوده بإجراء تغيير جذري في المنطقة المحتلة، حيث أقيمت مستعمرات جديدة ومصانع ضخمة ومواقع عسكرية رئيسية وخاصة في منطقة جبل الشيخ التي تشرف على قسم كبير من جنوب لبنان وسوريا ووادي نهر الأردن.
الحرب الأخيرة التي خاضها المقاومون اللبنانيون أثبتت كذب الادّعاءات الصهيونية بأن إسرائيل تريد الاحتفاظ بالمنطقة جنوب نهر الليطاني خالية من السلاح، والبقاء في الجولان كونه ضرورياً لأمن الكيان الصهيوني. ففي عصر الصواريخ يمكن للمقاومين أن يطلقوا صواريخهم من مناطق بعيدة عن الحدود مع المحتلين. لذلك، فإن الأهداف الإسرائيلية الحقيقية المغلّفة بشعار الأمن ما هي إلا قناع يخفي النية المبّيتة للتحكم المباشر بالثروات المائية والجوفية في كل من الجولان وجنوب لبنان، وهذا ما أعلن عنه كبار القادة الصهاينة الأوائل ويعلن عنه اليوم قادتهم الجدد.
باختصار، إن الوضع الحالي يؤكد حقيقة أننا نواجه تحديات مصيرية، لم تبدأ مع حكم «البعث»، بل تعود إلى مرحلة ما قبل بداية حقبة الانقلابات العسكرية. لقد خسرت سوريا منذ الانقلاب العسكري الأول بقيادة حسني الزعيم في آذار 1949 حتى اليوم فرصاً عديدة لبناء قوة ردعية على الأقل، تضع حداً للتوسع الصهيوني رغم كل الصعوبات والتحديات. وبسبب الصراع على السلطة بين العسكر، تحوّلت سوريا إلى ميدان للتنافس بين القوى العربية والدولية المتنفّذة في تلك الفترة. وشهدت حقبة الانقلابات العسكرية قمعاً لكل القوى التي تعارض كل حكم جديد. وتساوت جميع الأنظمة التي حكمت دمشق في اعتماد أسلوب القمع والتنكيل. وكانت مرحلة الوحدة مع مصر، على سبيل المثال، قد تميّزت بقمع وحشي مارسه جهاز المخابرات بقيادة عبد الحميد السراج، حيث زجّ بالآلاف في السجون وتمت تصفية بعضهم. كما أدّت الانقلابات وخلافات الضباط في ما بينهم حول كيفية قيادة سوريا إلى نشوء ظاهرة خطيرة تمّ فيها تدجين معظم القوى السياسية، فانعدمت الحياة السياسية السليمة خوفاً من أجهزة المخابرات. واعتمد كل انقلاب لتثبيت حكمه على القبضة البوليسية وما ينتج عنها من قمع واضطهاد.
لقد أدمن السوريون على مفاعيل تلك الممارسات. وها هم اليوم جميعاً، على الرغم من اختلافاتهم وتنوع توجهاتهم الأيديولوجية، يحصدون ما جنته عليهم تلك الأنظمة. والمصيبة لا تقتصر الآن على انهيار اقتصادي، وعلى احتلالات أميركية وتركية وصهيونية، ترافقها مشاريع انفصالية… بل إن الخطر الأكبر يتمثل بتحركات الجيش الصهيوني الذي أصبح على أبواب دمشق، ولا يزال يواصل تقدّمه داخل الأراضي السورية دون توقف، بينما يشن سلاح الجو الصهيوني غارات مكثّفة لتدمير ما تبقّى من البنية العسكرية السورية. وباعتقادي أن القضية الأساسية اليوم ليست ما إذا كان باستطاعة الجولاني/الشرع وفريقه المسيطر على دمشق البقاء في الحكم أم لا، بل كيف سيستعيد السوريون أرضهم المحتلة، وهل باستطاعتهم الحيلولة دون تحقيق حلم بن غوريون بالاستيلاء على دمشق وجنوب سوريا والجولان؟
هناك حقيقة لا يستطيع أحد تجاهلها وهي أن تحرير الأرض المحتلة هو القاعدة الأساسية لشرعية أي حكم في دمشق. فالاستسلام للأمر الواقع يُعتبر خيانة لدماء مئات الآلاف من الأجيال السورية التي قاتلت من أجل سوريا وجنوبها. واليوم ليس مهماً مَنْ يتربع على كرسي الحكم، ولا أن ينتصر مذهب على آخر، بل الأهم والضروري هو كيف تستعيد سوريا أرضها المحتلة؟ فالأرض أهم من أي حاكم مهما كانت مؤهلاته وتوجهاته السياسية ونواياه.