اتفاق وقف إطلاق نار… أم تمهيد لاتفاق سلام؟
محمد الحسيني – وما يسطرون|
كما يناور العدو الاسرائيلي في سوريا منذ سقوط نظام “الأسد” عبر قضم مزيد من المساحات، وفي فلسطين المحتلة عبر مزيد من المفاوضات “الهزلية” بالتزامن مع استمراره بعمليات عسكرية وأمنية ضد كل من الضفة الغربية وقطاع غزة مع ما يرافقها من قتل وتجويع للمدنيين، كذلك اليوم فإنه يناور في الجنوب اللبناني لكن على طريقة “العصابات المتفلتة”، في وقت أضحت مناوراته هذه اكبر من مجرد خروقات، وأكثر من عمليات تفتيش على سلاح المقاومة وبناها التحتية، وأخطر من “حرية تحرك”، إذ أصبح ينطبق عليها وصف الدويلة “المتغطرسة” ضمن الدولة “العاجزة”، بعد أن وصل به الاستفزاز أن يمارس حرباً “أوليغارشية” من داخل هذه الدولة ضد فئة من المواطنين اللبنانيين، وجدوا أنفسهم يرزحون تحت واقع مرير، هو أصعب ما مرّوا به منذ عشرينيات القرن الماضي، فلا سلطة شرعية تدافع عنهم في الجنوب، ولا بيانات إدانة توصّف ما يحدث، ولا أموال لإعادة إعمار ما هدّمه الكيان المحتل، وعند الحدود الشرقية هم مطوقون بانتمائهم المذهبي، أما في مطار بيروت الدولي ما كان ينقص سوى استخدام “الكلاب البوليسية”، لاستكمال مشهد التفتيش الانتقائي بحق الزوار اللبنانيين القادمين من المقام المقدس لدى الطائفة الشيعية في مدينة “مشهد”.
كل ذلك لأنهم قُيدوا من طرف واحد بالقرار 1701، فلا هو مسموح لهم أن يدافعوا عن انفسهم وإلا اتهموا بالأرهاب، ولا أن تدافع المقاومة عنهم وإلا تم وصفها “بالدويلة ضمن الدولة”، ولا حتى سلطة مركزية تصدر أمراً للجيش اللبناني بالتصدي لاستفزازات العدو والاشتباك معه، ولا شكاوى تُرفع ضده إلى مجلس الأمن الدولي، بعد حصرها في لجنة مراقبة بقيادة أمريكية منحازة، تماطل في تنسيق عمليات دخول الجيش اللبناني للقرى الحدودية، تحت مبررات لا سيادية، بعنوان “ضرورة أن يأخذ العدو وقته في تنفيذ أهدافه من العملية البرية في ظل عجز الجيش اللبناني عن تنظيف الأرض”، وذلك على مرأى وصمت كل الأحزاب والسياسيين اللبنانيين، الذين لولا أن أصوات المسيّرات في سماء العاصمة بيروت قد أرهقت أذان بعضهم، ما كان لهؤلاء أن يلاحظوا وجود عدو يمعن في انتهاك السيادة وفي استمرار احتلاله للقرى الحدودية.
بعد أن بات يمارس دور “الدويلة الأمنية والعسكرية” ضمن الدولة اللبنانية، لإظهار عجزها على تنفيذ القرار 1701 أمام المجتمع الدولي، وفي أنها بحاجة دائمة لشكل من أشكال الوصاية، ساعده في ذلك تركيبة النظام الطائفي في لبنان، في ظل استمرار التناحر السياسي فيما بين السياسيين كافة عند كل مفصل أو استحقاق، منها مسألة العداء أو السلام مع اسرائيل…والنقاش حول شكل العلاقات الاستراتيجية مع بعض الدول كالولايات المتحدة وسوريا وايران وغيرهم……كل هذا أدى إلى انشقاق وتباعد بين اللبنانيين والى جدلية واسعة، لاسيما آخرها في محاولة تجفيف مصادر الأموال المفترض إرسالها من ايران لإعادة الإعمار، بعد أن تمت مقاربته بصورة تنم عن “كيدية سياسية” في ملف اجتماعي حساس يُهدد مصير عائلات هُدمت بيوتها ودمرت قراها، في ظل عدم وجود خطة بديلة وواضحة من قبل الحكومة… لكن يبقى جوهر الأسباب الأسرائلية ثابت في أمرين:
ضعف السلطات التي تعاقبت على حكم البلاد، وعدم تجهيزها للجيش اللبناني في مواجهة الأطماع التاريخية الصهيونية، وتحييده عن دوره الأساس في الدفاع عن الحدود الجنوبية، نجم عنه حالة من اللاستقرار في القرى الجنوبية الحدودية، مما رسخ “ايديولوجية الاستضعاف” في عقيدة العدو القتالية تجاه لبنان، فازدادت تعدياته وانتهاكاته الدائمة للسيادة الوطنية، بالتالي أدى إلى حتمية انطلاق أكثر من مقاومة ضده منها الفلسطيني ومنها اللبناني عززتها “اتفاقية القاهرة” في العام 1969، ناهيك عن احتلاله لاحقاً لاراضي لبنانية أوكلت الحكومات المتعاقبة بعد الطائف خلالها مهمة تحريرها للمقاومة بدل الجيش اللبناني.
الموقع الجغرافي والجيواستراتيجي للبنان بالنسبة لسوريا جعل منها محط أنظاروتدخل لحكام سوريا المتعاقبين، ولاحقاً قاعدة أمنية ولوجستية لكافة أشكال المقاومة في لبنان ضد الاحتلال بالرغم من اختلاف اللبنانيين في وجهات النظر بهذا الشأن، وما يؤكد الدور السوري الذي أزعج الاسرائيليين هي قيامهم بعمليات ثأر ضد الجيش السوري بتدميره كلياً بما فيها البنى التحتية العائدة له، وذلك عقب سقوط نظام “الأسد” وقيام نظام “الجولاني”، الذي انتقلت إليه “عدوى أداء التسلط والتدخل في لبنان”.
وما رواية عصاباته المسلحة أنهم قد ضلوا الطريق إلى المصنع اللبناني، سوى “سيناريو” كتبه بخط يده ليؤسس عليه قراره المُعّد سلفاً بهدف وضع قيود جديدة على دخول اللبنانيين إلى سوريا، وكذلك اشتباكاتهم في معربون ضد الجيش اللبناني، وتهديداتهم باحتلال لبنان في غضون ساعتين، عشية الانتخابات الرئاسية. وهل سيتبعها قرار سوري آخر بإغلاق تام للحدود مع لبنان في أطار الضغط الدولي عليه؟ أم أنه استدراج لرئيس الوزراء اللبناني لزيارة دمشق؟ أم هو تهديد عابر للحدود على وجه الخصوص في مسألة توقيف “عبد الرحمن القرضاوي”؟ فهل ستعود الوصاية السورية على لبنان لكن من بوابة “النصرة” هذه المرة؟
كل هذا يتزامن مع استمرار الاستفزازات والانتهاكات الصهيونية جنوباً، فهل ذلك محض صدفة؟ هذه الانتهاكات في مجملها تمارس لأسباب ثأرية ضد الجنوبيين، فما عجزت عن تحقيقه خلال الحرب تنفّذه اليوم، كون مجريات المعركة البرية على أرض الجنوب ضد المقاومين قد فاجأت توقعات العدو، لذا من بعد فشله المتكرر في إحراز اي نصر ميداني، عمل مباشرة على نقل أهدافه ضد بيئة المقاومة بغية ارهابها فاخراجها فعزلها عن المجتمع اللبناني، نجح في ذلك فاصيبت بالإحباط التام والشلل الكلي، نجم عنه قبول المقاومين على مضض بوقف إطلاق النار على الرغم من أن الوقائع في الميدان تشير إلى قدرتهم على الصمود لسنوات، فضلاً أن الجيش الاسرائيلي قد استنزف تماماً عند القرى الحدودية…
فكانت العودة للقرار 1701 المخرج الوحيد للطرفين، لكنه فُخخ بمهلة الستين يوماً. مما سهّل للعدو تدمير عشرات القرى الحدودية، بغية إنشاء محور عازل على امتداد الشريط الحدودي بعرض 5 الى 8 كلم، وذلك خلال مرحلة الستين يوماً القابلة للتجديد عدة مرات، ربطاً بعدة استحقاقات منها الانتخابات الرئاسية اللبنانية وشخصية الرئيس، ومنها الاختلاف على تطبيق القرار 1701 شمال نهر الليطاني، وما قصفها الأخير لجبل الريحان سوى رسالة واضحة في هذا الاتجاه، تؤكد المستوى المرتفع في جديتها المطلقة بتطبيقه إلى ما بعد النهر، ومنها دور العصابات المسلحة السورية على الحدود الشرقية للبنان، ومنها أيضاً عدم ممانعة حكم “الجولاني” من توقيع معاهدة سلام مع اسرائيل. وأخيراً وليس آخراً تحضير الأرضية السياسية اللبنانية للحاق بالسلام السوري- الاسرائيلي المرتقب.
بالتالي كيف سيتعامل لبنان عامة مع كامل هذه التحولات؟ وما هو الموقف الرسمي وغير الرسمي من بقاء الاحتلال بعد انقضاء مهلة الـ 60 يومأ؟ فهل ستتجرأ الدولة اللبنانية على تبني عمل مقاوم شعبي وطني شامل إلى جانب الجيش لدحر الاحتلال؟ أم ستكتفي بالمراقبة وتعداد الانتهاكات؟ أم ستلتحق بما كان يُعرف بدول “الطوق العربي” فتوقع سلاماً مع العدو؟ هي اسئلة كثيرة تتهرب الحكومة الحالية في الخوض فيها أو الإجابة عليها، رامية بثقل كلماتها على العهد الجديد بحكومة جديدة مع مجلس نيابي جديد …