العملاق الأمريكي ينحني في البحر الأحمر: انهيار أسطورة الهيمنة البحرية أمام إصرار اليمن!
خاص – المساء برس| تقرير: زكريا الشرعبي|
اعتاد العالم على أمريكا التي تستعرض عضلاتها في بحار العالم بأساطيلها الستة على امتداد الكرة الأرضية، وتدعمها دعاية إعلامية ميزانيتها تساوي مليار دولار من ميزانية البنتاغون، مئات الصحفيين المُضمنين من مؤسسات الإعلام المهيمنة، ومتحدثين رسميين على مستوى الوحدات العسكرية، ومصورين مخصصين لكل سفينة، لإظهار صورة الإمبراطورية التي لا تقهر.
لقد رسمت البحرية الأمريكية هذه الصورة في المياه دون أن تضطر إلى خوض معركة حقيقية واحدة منذ الحرب العالمية الثانية، ولطالما انتشى الأمريكيون بصورة الغلبة المطلقة التي يلخصها المؤرخ البحري الأمريكي لينكولن ب. باين بالقول: “كما كانت الحال مع البرتغال في القرن السادس عشر، فإن الأسطول الأميركي موجود لفرض قوته وحماية التجارة، وليس لمحاربة أساطيل ذات قدرات مماثلة لأن لا شيء منها موجود”.
ورغم أن المنظرين لنشوء البحرية الأمريكية مثل ماهان استلهموا نظرياتهم من تجربة هيمنة الأسطول الملكي البريطاني، إلا أنهم نسوا أن يستلهموا دروس نهاية الجشع، والاغترار بالقوة أمام إرادة الشعوب.
عندما بدأ طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023م، أرسلت الولايات المتحدة حاملتي طائرات هما يو اس اس فورد ويو اس اس أيزنهاور كجزء من استعراض القوة لضمان استفراد كيان العدو الإسرائيلي بغزة.
قال قائد سفينة حاملة الطائرات يو اس اس أيزنهاور (IKE) الكابتن كريس هيل: كان هدفنا أن نذهب بأقصى سرعة إلى شرق البحر الأبيض المتوسط ونلتقي هناك بحاملة الطائرات يو اس اس فورد والتقاط بعض الصور وتوفير بعض عمليات الوجود لردع الدول المحيطة بإسرائيل.
عندما بدأت العمليات العسكرية اليمنية ضد كيان العدو الإسرائيلي، كان الأمر بمثابة تحول كبير في المعركة البحرية، قبل أن يغير تاريخ الحرب البحرية إلى الأبد.
في هذه المعركة تبين أن العملاق الأمريكي لم يكن كما صورته هووليود وكما ظنه الآخرون من المفتونين به، فلم تمض سوى بضعة أشهر حتى بات القادة الأمريكيون قبل غيرهم يقولون إنهم لم يتعرضوا لهجمات كثيفة هكذا ولم يخوضوا حربا مثل هذه منذ الحرب العالمية الثانية، حتى أن قائد حاملة الطائرات يو اس اس أيزنهاور لم يكن يجد الوقت لتغيير ملابس النوم، فكان يقضي الوقت بالبجامة وحذاء المنزل، وعلى حد تعبيره هي المرة الأولى “التي تتعرض فيها حاملة طائرات أمريكية لتهديد مباشر مستمر من عدو منذ الحرب العالمية الثانية”.
لقد تبين خلال هذه المعركة محدودية القدرة الأمريكية أمام الإصرار والعزم الإيماني للقوات المسلحة اليمنية، كما تبينت العيوب الكبيرة في سلاح البحرية الأمريكية إلى درجة أن نقاشا غير خفي يدور في أروقة المؤسسات البحثية التابعة للبحرية والمرتبطة بالبنتاغون يدور حول ما إذا كان هناك جدوى لحاملات الطائرات أم لا، ونقاشا آخر حول كفاءة البحرية الأمريكية، وقدراتها على الصمود في المواجهة أمام خصوم آخرين أو في ساحات متعددة.
إن الأحداث في معركة البحر الأحمر ليست مجرد تفاصيل في حرب بل إن كل عملية تقوم بها القوات المسلحة اليمنية لها وزنها وأثرها على عملاق الطين الأمريكي،ولن نبالغ فنقول إن القوة البحرية الأمريكية قد انتهت أو تلاشت في هذه المعركة لكننا أمام واقع جديد لم يعهده العالم من قبل، فعندما لا تستطيع أربع حاملات طائرات أن تؤمن عبور سفينة واحدة في البحر الأحمر، بل ولا تستطيع أن تؤمن نفسها فهذا يعني أن زمن البحار المفتوحة أمام أمريكا قد انتهى، على الأقل في “الشرق الأوسط”، وبالمناسبة لقد جاءت تسمية الشرق الأوسط من نظرية القوة البحرية التي وضعها الضابط البحري الأمريكي ماهان وكانت إحدى النظريات الجيوسياسية الرائدة، كما مثلت أحد الأسس النظرية لتنامي البحرية الأمريكية.
لقد ضرب اليمن أساس وجود البحرية الأمريكية، وبحسب ستيف كوهين -عضو سابق في مجلس إدارة المعهد البحري للولايات المتحدة- فإن ما تعرضت له البحرية الأمريكية فقد عانت البحرية الأمريكية خلال الأشهر الماضي من أكبر انتكاسة لها منذ خمسين عاما، وهي كارثة أكثر تدميراً من غرق السفينة بون هوم ريتشارد على الرصيف أو فقدان 17 بحاراً في تصادم مدمرتين.. إن ما تعرضت له البحرية الأمريكية في البحر الأحمر هو نكسة وجودية وتثير تساؤلات حول السبب الأساسي لوجود البحرية ذاتها.
وليس هذا التقييم بوجهة نظر شاذة، ففي ذات السياق يقول تقرير لمجلس العلاقات الخارجية الأمريكية إن الولايات المتحدة تتخلى عن المهمة التي أنشئت من أجلها، وهي “إبقاء خطوط الاتصالات البحرية مفتوحة”.
ويقول تقرير لمجلة ناشيونال انترست إنه “في مقابل جزء بسيط من تكلفة حاملات الطائرات الأمريكية، أثبت الحوثيون في أواخر عام 2023 أنهم قادرون على إبعاد البحرية الأمريكية بأكملها بالصواريخ المضادة للسفن”..وقد ” أصبحت حاملات الطائرات التابعة للبحرية الأميركية، والتي كانت في الماضي رمزاً للقوة العسكرية، تُرى بشكل متزايد على أنها أصبحت قديمة وعرضة للضعف في الحروب الحديثة”.
مع ذلك فإن هذا التقييم جزء من القصة فقط وهناك أجزاء أخرى بحاجة إلى جمعها كي تكتمل الصورة، فقبل أسبوع أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية عن إسقاط طائرة إف 18 بما وصفته نيران صديقة، وكان هذا حدثا مهما يكشف الحال الذي وصلت إليه البحرية الأمريكية بشكل عام، ويرتبط به تراجع حاملة الطائرات الأمريكية ترومان والطراد يو اس اس جيتسبرج إلى نحو ألف وخمسمائة كيلو متر عن اليمن والبقاء هناك لعدة أيام ضمن مسافة يعتبرها الأمريكيون آمنة إلى حد ما، غير أن هذا التراجع قد ألبس الحدث شيئا من الغموض وأثار تساؤلات بعد اقتراب الحاملة مرة أخرى من مسافة 1500 كم إلى مسافة 1000كم..لماذا انسحبت إلى هذه المسافة كلها ثم عادت مرة أخرى إلى مسافة أقل إذا كانت تعتبر أنها قادرة على الوجود بشكل أقرب، هل أصيب الطراد أم أصيبت الحاملة؟ ولماذا غطت القيادة الأمريكية على القصة بُرمتها ولم يتم نقاشها أكثر لا على مستوى المؤتمرات الصحفية للبنتاغون أو تصريحات المسؤولين الأمريكيين.
إن هذا التعتيم لم يعد غريبا، بل كاد أن يكون مألوفا في الآونة الأخيرة، فعندما استهدفت القوات المسلحة اليمنية حاملة الطائرات أيزنهاور أنكر الأمريكيون تماما، قبل أن يظهروا اعترافا جزئيا ضمن هامش أحد تقارير الخبراء العسكريين المقربين من البنتاغون يقول إن صاروخا وقع على بعد مئتين متر فقط من الحاملة.
ولا يختلف الحال أيضا في التعامل مع طائرات إم كيو -9 التي بات اليمنيون يمارسون ضدها هواية القنص حتى سجلوا رقما قياسيا بإسقاطهم ثلاثة عشر طائرة في ثلاثة عشر شهرا، بينما يلجأ البنتاغون في كل مرة إلى القول “لقد اطلعنا على تقارير من مصادر مفتوحة” ونحقق في الأمر، وكأنما هذه الطائرات تعمل من تلقاء نفسها بشكل مستقل عن البنتاغون إلى درجة أنه يتابع أخبارها من المصادر المفتوحة عبر الانترنت.
يقول الباحث الأمريكي مالكوم كييوني في مقال بعنوان “الحوثيون الآن يسيطرون على البحر الأحمر، وأمريكا اعترفت بالهزيمة بصمت”: “إذا كانت البحرية الأمريكية غير قادرة حتى على فك حصار تفرضه اليمن، أحد أفقر بلدان العالم، فإن فكرة فك حصار حول تايوان ليست سوى ضرب من الخيال. وإذا لم تستطع الولايات المتحدة مجاراة إنتاج الأسلحة الإيرانية، فمن باب أولى أن نتخلى كليًّا عن فكرة التفوق على الصين.
وهذا أيضًا سبب الصمت حول الهزيمة في البحر الأحمر. إذ إنّها، أكثر من أي صراع آخر مشتعل حاليًّا، تسلّط الضوء على الأزمة داخل البنية العسكرية الغربية، وكذلك على حقيقة عدم وجود حل حقيقي لها. إن الاعتراف بعجزنا يعني الإقرار بأن عصر الهيمنة الغربية قد انتهى بالفعل. وبلا بديل حقيقي، سنستمر في ترك الحوثيين يفجّرون سفننا — ثم نتظاهر بأنّ شيئًا لم يحصل.”