لا يصح التواضع في غير محله. من حقنا أن نفتخر وأن نعلي الهامات وأن نقولها بوضوح : نعم لقد كنّا أمام نصر الهي بكل ما للكلمة من معنى يفوق بمجرياته وأبعاده ونتائجه ما جرى في حرب تموز 2006. كانت قوى الهيمنة ووكيلتهم أو بالأحرى عميلتهم الرئيسة في منطقتنا في قمة التحّفز، رأوها فرصة العمر !! للقضاء على حزب الله والمقاومة كمقدمة حاسمة لتغيير المنطقة وتهاوي ساحاتها، والمفاجأة أنّ النتيجة جاءت مخيبة ومحبطة. حزب الله والمقاومة لا يهزم حتى في ظروف مثالية لأعدائه !! بل الوقائع تقول أنّه يزداد تجّذراً ونفاذاً وتدّفقاً في عقول وقلوب الأجيال حيث محل الصراع الحقيقي، فكل جيل يلي يلاحظ أنّه أكثر استعداداً وحافزية وتصميم للقيام بالمهمة التاريخية واستكمال البناء. في بيئات المقاومة كلمة واحدة تتردّد : ليس المطلوب إلاّ مزيدا من بناء القدرة والاعتماد على النفس لصناعة غد أفضل وحماية قيمنا وبلدنا ومقدساتنا ومستقبل أمتنا، والفرصة لهزيمة “إسرائيل” تزداد وضوحاً بعدما تبيّن أنّها عدو يعجز أن يثبت لأيام بمفرده دون دعم أنظمة الغرب المفتوح عسكرياً وسياسياً، لكنّ كل شيء في تحول والغرب ليس بمنأى عنه) وصل بها الحال مؤخراً بالضيق أمام شعوبها والمساءلة عن قيمهم التي تهاوت وتزايد كره العالم لهم، ومفارقات مصالحهم).
ما جرى بالأمس قد يكون الأخطر في تاريخنا الحديث، هو نقطة تحول كبرى !تعني فيما تعني أنّ المقاومة في لبنان حجة دامغة على العالم،ملكا لكل حّر لا لشعب لبنان فقط، حجة تصفع الوجوه العربية الكالحة وتقّلص شرعيات حكوماتهم، هي تفرض عليهم التفكير بطريقة مختلفة لأنّه عندما يعجز الغرب عن حل مشاكله مع عدّوه فإنّه ببراغميته المعهودة إمّا سيفاوضه أو يحّل مشكلاته على حساب حلفائه إمّا الإثنين وإمّا قد يختار الصراع المفتوح الذي سيكونون وقوده. كل هذا تخشاه بعض الأنظمة العربية الحليفة لأميركا اليوم. وأنّ المقاومة حجة فيما يعني أنّ الحفاظ عليها وتقويتها ومدّها بالقوّة والقدرة صار مسؤولية ليس أهلها فحسب بل كل عربي صحيح وكل ساع لسيادة ومريد لتحّرر. أن تقف مقاومة ببضعة مئات من مقاوميها ومن خلفها مجتمع بهذا العزم والثقة والجاهزية للفداء والتضحية والبسالة أن تقف فتصّد أكبر هجوم غربي في التاريخ الحديث على لبنان وعلى شعوبنا بالأداة الإسرائيلية لهو أمر أشبه بمعجزة !.
لذلك لا بأس من وقفات وتأمل على مكث :
ـ أولاً: ثبت أنّ حزب الله أكثر تجّذراً في قلوب أهله من أي أمر، وأنّهم أي أهله أعانوه عندما تعثّر وأخذوا السهام بصدورهم دفاعاً عنه الى أن عاد ونهض وتسنّم المبادرة في الميدان بما يؤشّر أنّ شيفرة هذه المقاومة هي هذا المجتمع الواعي والفاهم لأهدافه والعارف بعدّوه وإستهدافاته والمؤمن بمشروعه إيماناً حقاً والجاهز للتضحية من أجل أهدافه فهو صاف في ارتبابطه وتعّلقه واعتقاده مع مقاومته وليس طارئاً أو منفعلاً، المقاومة بالنسبة اليه ليست خيار الضرورة فقط بل اختيار أيضاً !. وما روّجه بعض الإعلام اللبناني والخليجي والعلماني والوشاة أنّ علاقة حزب الله ببيئته تتأتّى من خلال المؤسسات الإجتماعية والدعم وأنّه لو كان هناك بديلاً عنه لتخلو عنه أو أنّه مجتمع يعيش عصبية. كل ذلك سقط بالضربة القاضية، هم تحرّكوا من أجل مظلومي العالم في فلسطين وقدسية الانسان أولاً وهم تحملوا التبعات لوها الى المقصد ودافعوا بأشلاء أبنائهم وأطفالهم ولم ينكسروا أو يهنوا وكانوا متصالحين مع الطبيعية والأنفس الحرة. وقفت تلك الأمّ تقول لإبنها الذي فقد عيناه في ضربة البيجر بينما كان الأطباء يكشفون عليه، لتقول له : “يا بني ما أجملك، إنّي أرى عيناك أجمل ممّا كانوا !!”. المجتمع والمقاومة صنوان لا امكانية لانفكاكهما وقد أثبتت الحروب وآخرها هذه الحرب أنهما واحد لدرجة لم يعد يصح القول “المقاومة وبيئتها” فالمقاومة هي البيئة، المقاومة بالنسبة لهذا المجتمع هويته و”يوسفه” وأغلى مواليدهم الذي انتظروه لقرون، ولا يمكن ولا يقبل أن يتخّلى عنها، فوجوده مقرون بها ومقترن بتقدمها، إنّها باختصار هويته ومعنى حضوره وحياته، هذا المجتمع لا يفهم الحياة دعة ولا بحثاً عن موقع ومنصب يعطاه أو يمّن أحد به عليه، هذا المجتمع يفهم الحياة مسؤولية وتحّررا وانعتاقاً وتحريراً ورسالة وكرامة وعزّة.
ثانياً، أنّ إعلان النصر ليس ترويج ولا دعاية رغبوية أو إسقاط رغم الضربات القاسية والقاسية جدا بل هو منطق علمي رصين وواقع. الاختلاف في التقييم ينبع أولاً من زاوية النظر الى هذا الصراع للناظر وموقعه منه وفهمه لهذا الكيان العنصري القتّال الذي أنشأه الغرب وقوى التسلط والهيمنة، ينبع من فهم لسياقات المنطقة واستراتيجيات الهيمنة عليها وسلبها حريتها وخيراتها لصالح قوى الغرب، من فهم للذات الثقافية ومنظومة القيم التي أحملها، من منظوري للتاريخ وتصعّد الوعي والإرادة للإنتصار في هذه المعركة الحقة في عالم اليوم، من هو فهي أنّ هذا الصراع له مراحل ومدارج وله سياق وليس مبتوراً عن مسار التاريخ، هو صراع المستضعف والمستكبر والمظلوم ضد الظالم، هو ليس تقييم آني لحظي فقط، هو كل هذا الفهم وهذه الرؤية. إنّ من لا يريد أن يرى أو يضع معركتنا مع “إسرائيل” في سياق حضاري تاريخي ويقيّم التقدّم على ضوء ذلك ويصّر أن يتعاطى مع كل مرحلة بشكل مبتور ومجتزأ ومنفصل عمّا حوله قد لا يصل الى النتيجة التي وصلنا اليها من تعريفنا لما حدث، هذا إذا أحسّنا النية بموضوعيته وعدم تحيزه الا للحق والواقع والعلم !!. فالذي لا يرى أنّ الإرادة الحقّة تحّدد الإقتراب أو الابتعاد عن الهدف سيصعب النقاش معه ويستمر التباين والذي ينظر بحسابات الربح والخسارة وفق منطق الشركات ورأس المال فيهوى الربح السريع أو بكلمة أدّق الربح بالمقامرة وليس بالكّد والنصب وبعضهم لا يرغب أن تربح مقاومة عربية كي لا تشّع وتتسّع شرعيتها على حساب منطقه وحضوره.
فالذي لا يرى أنّ هذا الصراع الذي زرعت نواته الارهابية “إسرائيل” عنوة ثم عُمل لجعلها واقعا ثم لتكون طبيعية ثم لتصير محورية المنطقة ثم لتصنع شرعية القوة غير الحق ثم لتُضفي هي الشرعية على الآخرين. ولا ننكر أنّهم وصلوا في الأعوام الأخيرة لمرحلة متقّدمة حينما صار “السلام مقابل السلام”. وسارت الفكرة ضمن المخطط العام لها بنجاح حتّى حينه، أسقطت من قبل دولا وجيوشاً في أيام قليلة واحتّلت عواصم وأوصلت رؤساء جمهوريات (تجرأت أن تتدخل في البنية السياسية في الدول العربية) لا بل وصل الحال به أن جعلهم هم يطلبون القربى منها واللوذ بها، فصارت وكأنّها هي الأصل أي الكيان و هم الملحقون والفرع. إنّ هذا المسار المريع ل 7 عقود قضي عليه بضربة تاريخية، فكل عناوين الردع والجيش النموذجي والملاذ والطبيعي والواثق والمقبول ومضفي الشرعيات على الآخرين، كل ذلك سقط وهوى، فالكيان صار مكشوفاً، لا يقدر أن ينجز أي من الأهداف التي وضعها لمعركته رغم حجم القوة المفرطة التي استخدمها والدعم الغربي المطلق لإرهابه، وصار باعتراف المؤسسات الدولية لحقوق الإنسان دولة إبادة جماعية، وملاحق في العالم، ويقدّم التنازلات كي يضمن أن لا يكون مسجوناً بعد أن كان سجاناً. ولم يعد هو بوابة المنطقة ولا محورها ولا القادر على حماية ذاته فضلاً عن حماية غيره ولم يعد هو محورية النظام الإقليمي ولا جامعة الدول العربية التي حفّزت على إنشائها بريطانيا لاستكمال المشهدية للإقليم لم تعد ذات جدوى ـ أصبح هو والأنظمة العربية في مواجهة الطبيعة والشعوب. لذلك وعلى ضوء كل ما رأيناه نقول أنّه كان فعلاً نصراً بحق وتقّدماً في مسار الصراع لصالح قوى التحّرر ورفض الهيمنة الغربية والفساد الصهيوني. إنّه اعتراف أنّ المقاومين لم يعودوا لقمة سائغة يؤكلوا على لعبة مصالح الكبار أو يعيشون على استرضائهم، المقاومون باتوا اليوم لهم صوتهم ومنطقهم وحيثيتهم وشعوبهم ونفاذ بصيرتهم ودمهم وسيفهم وقدرتهم على التحدي.
المقاومة اليوم ليست ضرورة وحجة في سياق الحماية وتأكيد الحقوق، بل هي أيضاً حاجة لتأكيد التنوّع. لبنان لا يمكن أن يبقى ويستمر في هذا العالم دون مقاومة. من حوله، كيان معادٍ للطبيعة الانسانية والسوّية السليمة يستحيل امتزاجه أو دولا عربية ليست على شيء إلاّ أزمات شرعية ومشاكل كثيرة، ومن هم في الدائرة العالمية الأبعد طغاة يتسيّدهم البيت الأبيض لا يعرفون للقيم والحق والأخلاق معنى. إذاً لبنان يحتاج أن يقاوم لكي يبقى مع فارق أنّ مقاومته للعدو وجودية أمّا في علاقاته مع العرب فهي إصلاحية إرشادية موجبة!. يحفظ التنوّع والقيم مقابل الآحادية بالتضحية والفداء والشهادة. المقاومة اليوم هي تعبير واقعي عن مكون اجتماعي متجدد “عابر للطوائف أكثر ترّقياً في الإرادة والوعي والفاعلية” يحيا ويتقدّم ويتّسع في لبنان وفي المنطقة ويعّبر أفضل تعبير عن ماهيتها ومصالحها، بل تراها هي مقوم بقاء هذا البلد والاقليم.
أمّا الدولة فهي إمّا أن تكون مقاومِة أو اسم دولة فقط أي هيكل وحكم هّش ليس على شيء يشتري الحكم فيه الولاء بالمال أو العصبية أو بتقسيم الفضاء العمومي فتكون شكل دولة يغيب فيها حس الشعور بالذات والخصوصية ويقوى فيها حس التبعية وانتظار الخارج. والحياد فهو ليس أكثر من مسمّى آخر للتبعية.لأنّ الدول كما الإنسان تحتاج الى غاية ومثال أعلى تتطلع اليه والى تنشئة وسلوك سياسي ومواقف. الدولة التي لا تمتلك إرادة ذاتية ومبررات كافية لا تستمر، إلاّ إذا تلاقت مصالح الخارج لإبقائها كما حال بعض دولنا. لذلك فأنّ الدولة في عالمنا العربي التي جانبت منذ شأتها مقاومة الهيمنة العالمية وتوزيع القيم في سلطة وضعت معادلاتها قوى الهيمنة هي عاجزة حتى لو عزم بعض شخوصها , لا يمكنها أن تكون حرّة ولا يمكن ذلك لممثليها من أهل القرار، هي مقيّدة بقيود كثيرة ظاهرة وباطنة لا تتيح لها حرية التقرير وتحديد مصالحها بموضوعية , وهذا الفراغ والعطوبة البنيوية في بنية الدولة العربية هو السبب الرئيس الذي أنتج في واقع مجتمعاتنا ودولنا فواعل اجتماعية غير حكومية تتبنّى خيار التحّرر كأساس بديهي تلقائي وضرورة في كل مجتمع وعلى امتداد الأمة باعتباره حق أصيل وأولي وطبيعي وباعتباره قيمة أساس وشرط لانعقاد الاجتماع إذ أنّه دون الحرية لا يكون العقد صحيحا بل ويبطل لأنّه خيار حر !، وهو الذي جعل أصحاب إرادات بناء الدول السيّدة يبحثون عن بعضهم ويسعون للتكامل كحاجة في سياق هذه المعركة الحضارية والتاريخية، وللتذكير نشير، عندما كانت الأنظمة والدول تواجه المهيمن وتصارعه وتقاتله لم نر حضور هذه الفواعل ما يؤكد أنّهم حاجة نشأت لسّد فراغ مريع كما ذكرنا لأنّ مفهوم التحّرر والسيادة يقوم على منطق ارادة شعبية لا يمكن نقضها باعتبارها أوّلية وطبيعية قبل أي بحث آخر لتعود وتلحقه بمؤسسات تنّظم هذا التعبير وتمأسسه وتقّعده ليكون عاملاً كالسيادة وليس عنصراً في لعبة أطراف الحكم وجماعاته المتنافسة. لذلك تكون المقاومة هي قضية للكل السيادي أي للوطن، أي هي قيمة سيادية الطابع عامة وليست جزئية وأوّلية وليست ثانوية أو تابعة، هي قيمة من سنخية السيادة ومن طبيعتها لذلك تراها عاملا وليست عنصراً من عناصر الدولة، عامل لا يمكن احتكاره من مكوّن أو طرف لأنّه بذاته تعبير عن مشترك أخلاقي عابر يطرق كل باب لتخليق وتعزيز الارادة العامة. لذلك كانت المقاومة وستبقى كثقافة وخطاب وسلوك عاملاً محورياً في تثبيت وتعزيز بناء الدولة القادرة والعادلة. وهي اليوم ازدادت توهجاً ورسوخاً وصارت حاجة للأمان وليس الهدوء فحسب.