معركة الوجود: ملحمة المقاومة في قصيدة المشهد الحصري للشاعر بسام شانع (قراءة نقدية)

وما يسطرون – كامل المعمري – المساء برس|

قصيدة “المشهد الحصري” للشاعر بسام الشانع تأتي في زمن تتقاطع فيه الحدود وتتشابك القضايا، ويبدو أن الشاعر يسعى من خلالها إلى إعادة صياغة الواقع من منظور الحاضر المتوهج بالحروب والتوترات. القصيدة ترتكز على ثنائية الحرب والمقاومة، حيث تتجلى فيها صورة المقاومة التي تتحدى الواقع الصعب وتمسك بزمام الأمور رغم القسوة والمحن.

اقليميـــــــــــــة يـــااقليمنا البحري
او عالميـــــــــــــــة يـــا دول كبرى

وحــــــــــــرب لا مُوْقِف ولا مُجْرِي
وحــــــــــــرب لا جرحى ولا اسرى

يتضح أن هذه القصيدة كُتبت في خضم معركة طوفان الأقصى، التي تجاوزت حدود الجغرافيا الفلسطينية لتشمل الإقليم برمته، حيث استطاعت هذه المعركة أن تُعيد صياغة مفهوم المقاومة، ليس فقط كفعل فلسطيني محلي، بل كحركة تمتد جذورها في عمق الشعوب العربية والإسلامية.
القصيدة تأتي كصوت شعري يعكس هذا الامتداد، ويُعبّر عن تفاعل الوجدان الجمعي مع حدث تجاوز كونه مواجهة عسكرية ليصبح قضية إنسانية عالمية.

في النص، يتماهى الشاعر مع مشهد المقاومة الذي فرض نفسه على الساحة الإقليمية، فنجد إشارات رمزية إلى الامتداد الجغرافي والتاريخي للصراع، من خلال تصوير النيران التي تزحف من “الأخرى” لتغزو العالم، وكأن فلسطين أصبحت مركزا لصراع كوني بين الحق والباطل.
هذا التجاوز للحدود الجغرافية يظهر في الربط بين القوى الكبرى في العالم وبين معاناة الشعوب المستضعفة، مما يُبرز طبيعة الصراع كجزء من منظومة مقاومة أشمل.

منذ البداية، يبسط الشاعر أفقه أمام القارئ، فيطرح مشهدا كونيا لا يُختصر في حدود جغرافية أو إقليمية، بل يمد نظره نحو الصراع العالمي. وكأن الحرب هي روح الزمن الحالي، تمتد بلا توقف أو مجرى ثابت. فالحرب هنا ليست مجرد معركة تقليدية بساحات وجنود، بل هي حالة أبدية، لا تترك وراءها جرحى أو أسرى، بل تتجاوز المألوف وتخترق المفهوم الكلاسيكي للصراع.

القصيدة تشحن القارئ بروح التحدي، حيث يتحول الشاعر إلى شاهد عيان على ما يصفه بجحيم يتسع ويمتد ليغزو الدنيا، وكأن هذا الجحيم هو العقاب السماوي الذي يهبط على الأرض ليطهرها من فسادها. في هذا السياق، تظهر الرموز الدينية قويةً، حيث يجمع الشاعر بين المعراج السماوي والإسراء، ليرسم مشهدا يتجاوز الواقع الأرضي نحو عالم أعلى، وكأنه يرمز إلى ارتقاء روح المقاومة نفسها في مواجهة الظلم.

افتـــــك مــــن الفسفور والذري
يا اعنف ويااشرس معركة واضرى

من عنـــــــــد سبحان الذي يُجري
لا عنــــــــــــد سبحان الذي أسرى

جحيـــــــــم يتوســــع ويستشري
يزحــف على الدنيا مــــن الاخرى

ويتابع الشاعر مشهد الحرب بإيقاع حاد، مستخدما الصور الحسية والنار التي تلتهم كل شيء، حتى تصبح الألوان، الزرقاء والزهرية، جزءاً من مشهد الجحيم المتقد. هنا يتجلى براعة الشاعر في خلق عالم شعري حافل بالصدامات اللونية والحرارية، التي تعبر عن اشتباك المصير الإنساني في مواجهة قوى الظلام.
البحـــر الاحمــــر منحـدر صخري
والبحـــر الابيـــض منطقة صحرا

والنــــــار زرقـــــــا واللهـب زهري
واليـــــوم الاســـــــود ليلته حمرا

الشاعر يواصل رحلة التحدي عبر التأكيد على أن العالم بأسره، بكل قواه الكبرى، لا يستطيع شراء إرادة الشعوب الحرة. إنه يرفض منطق البيع والشراء، ويرى في المقاومة طريقاً واحداً لا رجعة فيه. ولا يدع الشاعر العالم ينعم بوهم الانتصار، بل يبرز قناعة جذرية بأن التاريخ يُكتب بيد الشعوب المستضعفة، تلك الشعوب التي تأبى أن تنحني للغزاة، والتي تراكم تجاربها في مقاومة طغاة العالم.

يتخلل النص قوة متفجرة تحملها اللغة، حيث يعتمد الشاعر على مفردات واضحة وحادة، تتراوح بين الكلمات القوية والجمل القصيرة التي تأتي وكأنها ضربات متتالية. هذه اللغة الحادة لا تكتفي بنقل مشهد الصراع بل تعكس روحية الشعب المقاوم الذي لا يرضى بالمذلة.

في هذا النص، يحضر الزمن بكل ثقله، حيث يلعب الشاعر على أوتار الماضي والحاضر، ويعيد إنتاج اللحظات التاريخية ليصنع من الماضي ملهما للحاضر. هو يربط بين تاريخ الأمة وبين الحاضر المتوهج بالصراع، فلا يرى في القوى العالمية الجديدة إلا تجسيداً لذات الطغاة القدامى. القيصر وكسرى هما وجهان جديدان للاستعمار الحديث، والأمريكي والإسرائيلي هما استمرار لتلك القوى القديمة التي حاولت السيطرة على الأرض والإنسان.

تكســر سكــــوت الواقع المزري
صفعة يماني بـ اليـــــد اليسرى

يبلغ النص ذروته حين يتحدث الشاعر عن صفعة يمانية، فهذه الصفعة ليست مجرد فعل مادي، بل هي تجسيد رمزي للمقاومة التي تخرج من قلب الأمة. الصفعة هنا تعبير عن الرفض العميق للواقع المهين، وهي دعوة إلى استعادة الكرامة الإنسانية والوطنية في مواجهة عالم يُسخّر كل طاقاته للسيطرة على الشعوب.

الشاعر يختم نصه بتأكيد على الإرادة الجماعية للأمة، حيث لا مكان للتراجع أو الاستسلام. إنها رسالة من أعماق الوجدان الشعبي الذي يتطلع إلى السماء، ويرى في صموده قدرته على صنع تاريخ جديد لا يخضع لقوانين الطغيان.

اضافة لذلك فان القصيدة تبدأ بصوت قوي وواضح، يجسد ما يمكن تسميته بـ”الخطاب الثوري” المتطلع إلى تغيير شامل. في أسلوب مباشر وصريح، يربط الشاعر بين الحرب والعدالة، بين الجرح والأسير، ليكشف عن عالم مشوه لا مكان فيه لقوانين الحرب العادية.
هذا الطرح يُظهر لنا كيف أن الشاعر يرى في الصراع مع القوى الكبرى شيئاً يتجاوز حدود الفهم البسيط للحرب، فهي حرب بلا حدود، بلا جرحى أو أسرى، بل هي حرب قاسية تبتلع العالم في جحيم لا يتوقف.

القصيدة تتسم بجرأة نادرة، حيث يتحدث الشاعر عن قوة تفوق حتى الأسلحة الفتاكة كالفوسفور والقنابل الذرية، وكأنه يريد أن يؤكد أن قوة الإرادة الإنسانية، المستندة إلى العقيدة والإيمان، تتجاوز كل هذه الأسلحة.
هنا نجد أن الشاعر يطرح رؤية مختلفة للحرب، فهي ليست فقط حرباً ضد آلة عسكرية، بل هي مواجهة شاملة مع نظام عالمي يسعى لإخضاع الشعوب.

ومن خلال استعمال الرموز الدينية، مثل “سبحان الذي يُجري” و”سبحان الذي أسرى”، يعيد الشاعر ربط الواقع بالمقدس، حيث يبدو أن هذا الصراع هو جزء من معركة أزلية بين الحق والباطل، بين النور والظلام.
البحر الأحمر كمنحدر صخري، والبحر الأبيض كمنطقة صحراوية، هي صور تعكس الجغرافيا التي تحولت إلى ساحة مواجهة كونية، وكأن كل شيء في هذا العالم مهيأ للانفجار الكبير.

يا العـــالم المبتــــــــاع والمشري
لسنـــا بمـــن نبتـــــــاع او نشرى

يا العــــالم المهتـــــــاب والمَغري
لسنـــا بمـــن نهتـــــــاب او نغرى

الشاعر، في أسلوبه الجريء، يوجه رسالة واضحة إلى العالم. هذا العالم “المبتاع والمشري” ليس إلا عالماً متورطا في تجارة الحروب والأسلحة، حيث تصبح الشعوب بضاعة في أسواق القوى الكبرى. ولكن الشاعر، وبثقة مطلقة، يرفض هذه المعادلة، مؤكداً أن الشعوب الحرة لا تُباع ولا تُشترى. إن هذه الرسالة تحمل في طياتها إدانة قاسية للنظام العالمي القائم، الذي يسعى إلى إخضاع الشعوب من خلال المال والقوة.

القصيدة تعتمد على ألفاظ ذات ثقل معنوي ودلالي قوي، حيث تم اختيار الكلمات بعناية لتعبر عن مشاعر القهر والمقاومة والتحدي.
اللغة المستخدمة في النص تتسم بالتكثيف، إذ تتركز معظم الألفاظ في فضاء يحمل معاني الصراع، مثل “النار”، “الزحف”، “الحرب”، “الدم”، و”الأرض”. هذه الألفاظ ليست عشوائية بل تم استخدامها بطريقة تجعلها تتكرر بصور مختلفة، مما يضفي نوعًا من الموسيقى الداخلية للنص، ويعمق من تأثيره على المتلقي.

تتميز القصيدة بفذلكة لغوية لافتة، حيث يستخدم الشاعر تقنيات التلاعب بالألفاظ بشكل يخلق دهشة للقارئ. هناك انعكاسات صوتية وتراكيب معقدة تتداخل فيها الألفاظ لتعزز من قوة النص. على سبيل المثال، تكرار بعض الجذور اللغوية مثل “حرب” و”نار” في مواضع متعددة، يجعل النص يبدو وكأنه ينبض بحركة دائمة لا تتوقف. هذا التكرار لا يهدف فقط إلى تعزيز الإيقاع، بل يشكل أيضًا نوعًا من الضغط الدلالي الذي يُشعر القارئ بحدة الصراع.

من ناحية التراكيب، يعتمد الشاعر على جمل قصيرة وقوية، مما يمنح النص إيقاعًا متسارعا يشبه إلى حد كبير ضربات الطبول في ساحة معركة.
هذا النمط من التراكيب يعكس روح التحدي والمقاومة التي تهيمن على النص. في بعض الأحيان، تتداخل الجمل وتتشابك من خلال تكرار ألفاظ معينة، مما يخلق إيقاعًا دائريًا يشعر القارئ بأنه محاط بجو مشحون بالعواطف.

تستخدم القصيدة أساليب التلاعب بالألفاظ بشكل رهيب، حيث يلتقي الاشتقاق مع الجناس في مواضع متعددة. على سبيل المثال، هناك استخدام للألفاظ التي تحمل أكثر من دلالة في سياقها، مما يفتح المجال لتأويلات متعددة. الشاعر يلعب على هذا التنوع الدلالي ليعزز من عمق المعاني، ويجعل النص مليئًا بالأبعاد الخفية.

في النص، يوجد تحول مستمر بين المعاني الحرفية والمجازية، حيث يُستخدم اللفظ في معناه الحرفي في موضع ما، ثم يتكرر في معناه المجازي في موضع آخر. هذا التلاعب يجعل النص ينبض بالحياة، حيث تشعر أن الكلمات تتحول وتتنقل بين المعاني المختلفة بسلاسة رهيبة.

أما من حيث الصور البلاغية، فإن النص يتسم بغنى في التشبيهات والاستعارات التي تعزز من بنية النص الرمزية. النار والبحر والأرض والشمس كلها عناصر طبيعية يستدعيها الشاعر لتصبح رموزًا للصراع الأبدي. هذه الصور ليست مجرد زخرف بلاغي، بل هي جزء أساسي من بناء النص الذي يتجاوز الملموس ليعبر عن حقائق معنوية أكبر.

الصور البلاغية تساهم في تعزيز هذا البناء، إذ يشكل التشبيه والاستعارة جزءًا مهمًا من التكوين البلاغي للنص.
هذه الصور لا تكتفي بكونها أدوات بلاغية تقليدية، بل تتحول إلى أدوات بنائية تُستخدم لتوسيع نطاق المعنى. “النار” و”الزحف” ليست مجرد عناصر تصويرية، بل هي رموز تقود النص نحو تكوين سردي مكثف يعبر عن واقع الصراع والتمرد.

بهذا المعنى، النص “المشهد الحصري” يعتمد على تكامل بين مختلف عناصره، حيث تتكامل الألفاظ مع الصور البلاغية والإيقاع، مما يجعل النص وحدة بنيوية متماسكة تستمد قوتها من انسجام كل عناصرها الداخلية.
كما هذه البنية تجعل النص أكثر قدرة على توصيل رسالته دون الحاجة إلى الشرح أو التفصيل، إذ تُفهم المعاني من خلال تفاعل العناصر داخل النص، مما يعكس قوة البنية الداخلية وحيويتها.

احنا عمـــــــــــــود الملة الفقري
واحنا كبــــــــــــود الأمة الحرّى

واحنا الـذي فـ المشهد الحصري
واحنا الــذي في ســـورة الاسرا

متسربلين المسنــــــــــد الدهري
متعممين القبّـــــــــــــة الخضرا

قايـــد لنــا قايـــد علــــــم بدري
قايم قيــــــــــــــام الحجة الغرَّا

في الأبيات المذكورة، تتجلى الدمزية بشكل واضح من خلال فخر الشاعر بالهوية اليمنية ودورها التاريخي والديني في الدفاع عن الأمة الإسلامية، مع الإشارة إلى بعض الرموز والرمزيات المعبرة عن هذا الفخر. يُظهر تعبير الشاعر عن اليمنيين كـ”عمود الملة الفقري” و”كبــــود الأمة الحرّى” فخره بالهوية اليمنية واعتبارها عنصرًا أساسيًا في الحفاظ على الإسلام، مما يعزز شعور القارئ بالفخر والانتماء.

يشير الشاعر أيضا إلى “المشهد الحصري” و”سورة الإسراء” للدلالة على دور اليمنيين في المستقبل كقادة لتحرير فلسطين، مما يربط بين اليمن وفلسطين ويعكس الالتزام العميق بالقضية الفلسطينية. عندما يقول “متسربلين المسنــــــــــد الدهري”، يُعبر الشاعر عن الاعتزاز بالتراث الثقافي والتاريخي لليمن، حيث يدل “المسنّد” على الفخر بتراث أجدادهم الذين ساهموا في تشكيل التاريخ.

علاوة على ذلك، يُظهر تعبير “متعممين القبّــــــــــــة الخضرا” انتماء اليمنيين للنبي محمد (ص) وللإسلام، حيث تشير “القبّة الخضرا” إلى القبة التي تُغطّي ضريح النبي في المدينة المنورة، مما يعكس ارتباطهم الروحي والإيماني بالنبي. الإشارة إلى “قايـــد لنــا قايـــد علــــــم بدري” تُبرز القيادة التي يتمتع بها السيد عبدالملك الحوثي، مما يعكس ثقة اليمنيين في قيادتهم ودورهم كقادة للمسلمين في وقتهم.

تُظهر العبارة “قايم قيــــــــــــــام الحجة الغرَّا” استمرار اليمنيين في الصمود والمقاومة، حيث تُشير “الحجة الغرَّا” إلى القيادات الصادقة والعادلة. في النهاية، تتجلى الدمزية في هذه الأبيات من خلال الفخر بالهوية والانتماء، والارتباط بالقضية الفلسطينية، والاعتزاز بالتراث التاريخي، والارتباط الروحي بالنبي محمد (ص)، وثقة اليمنيين في قيادتهم، مما يُعبر عن قوة وعراقة الوجود اليمني كحامل لرسالة الإسلام والدفاع عن الأمة.

النص يتميز أيضاً بمزج الذاتي بالجمعي، حيث يعبر الشاعر عن موقف الشعب بأكمله، مما يجعل النص يحمل بعدا شعبيا وقوميا والرسالة ليست فردية بل عامة، وتمثل تحدياً جماعياً في وجه الظلم والقوى الطاغية.

في المجمل، قصيدة “المشهد الحصري” لبسام شانع تنتمي بوضوح إلى الشعر الشعبي الملحمي هذا النوع بين الخصائص الشعبية المألوفة والعمق الملحمي الذي يتناول موضوعات تعكس البطولة والمقاومة وقد استطاع الشاعر من خلال هذه القصيدة توظيف الاسلوب السردي حيث يتنقل بين مشاعر الفخر، التحدي، والثبات والعزيمة والتضحية كما أن استخدامه للصور الطبيعية والكونية، مثل “كوكب الدري” و”النجوم”، يُعطي إحساساً بالعظمة والفخر، ويعكس التوتر بين القوى الكبرى والتحديات التي تواجه الأمة.

كذلك فان التكرار في بعض العبارات يعزز الإيقاع الشعري ويُظهر تصميم الشاعر على إيصال رسالته، مما يجعل القصيدة ليست مجرد كلمات، بل هي صرخة تعبر عن حالة الوعي الجمعي.

قد يعجبك ايضا