نسبية الانتصار والخسارة

سعد الله مزرعاني – وما يسطرون|

أحد أسباب التريّث في تقييم الحرب بين المقاومة والعدو الصهيوني، أن هذه الحرب لم تنتهِ تماماً بعد. ذلك، ببساطة، لأن الأسباب التي أدت إلى حصول «طوفان الأقصى»، ونعني بذلك «طوفان» التطبيع وآخره مع قيادة المملكة السعودية (قبيل 7 أكتوبر 23)، على وشك أن يُستأنف حالياً، وإن بوسائل بالغة الهمجية، اعتمدها العدو وبرَّرتها واشنطن ووفَّرت له ولها، مع عتاة حلفائها الغربيين والمتواطئين العرب، كل أسباب المضي في العدوان لأكثر من 14 شهراً! إلى ذلك، فإن «حرب الإسناد» في لبنان التي حوّلتها تل أبيب إلى حرب برية، بهدف تصفية «حزب الله»، لم تضع أوزارها بشكل راسخ بعد، بسبب أن حكومة المتطرفين الفاشيين، بقيادة نتنياهو، قد أضافت إلى البُعد الإقليمي للصراع، بما هو صراع على المنطقة وثرواتها وأسواقها وموقعها ومصائرها، بعداً تلمودياً جامحاً يمسك أنصاره، في الحكومة الحالية، بمعظم القرار في كيان العدو. إلى ذلك، فإن التوليفة التي اعتمدتها واشنطن، في الشكل والمضمون، لوقف إطلاق النار الذي طلبته إسرائيل وأعلنه الرئيس بايدن في 27 ت 2 الماضي، هي عملية مفخّخة لتمكين جيش العدو، المرهق والذي تكبد خسائر فادحة في غزة ولبنان خصوصاً، من أن يحقق في ظل وقف إطلاق النار ما عجز عن تحقيقه أثناء القتال. هذا الأمر، مقروناً بخروقات جيش العدو الـ 60 الجسيمة والدامية والشاملة (حتى منتصف الأسبوع الحالي)، يشير إلى المنحى الخطير والتآمري والعدواني الذي تتواطأ على تمريره واشنطن (الوسيطة)، والموجّه، أساساً، ضد لبنان وجيشه وشعبه وسيادته، وليس فقط ضد المقاومة. علماً أن ذلك لم يواجه بشكل حازم من قبل الحكومة اللبنانية. وهو يهدد، فعلاً، بانهيار وقف إطلاق النار الذي يؤكد نتنياهو أنه محدود، أو اختباري، خلال 60 يوماً.
مع ذلك، لا بدَّ من تقييم ما حصل من جولات حتى الآن. لعل أول ما ينبغي ملاحظته في كل تقييم موضوعي وأخلاقي (لأن الأخلاق في عالم السياسة هي أحد أبرز شروط الموضوعية)، أن المقاومين في لبنان، وقبلهم – حتى ما بعد وقف إطلاق النار بين العدو والمقاومة في لبنان – مقاومو غزّة، قد سجّلوا بطولات مدهشة: بكفاءة وإصرار وإرادة، فاجأت العدو قبل الصديق. وهذا إن دلَّ فعلى أن هؤلاء المقاومين هم أبناء أو أصحاب قضية حفّزت لديهم عظيم التضحيات والصمود والثبات، رغم الخسائر الهائلة، وتفوّق العدو ووحشيته التي جعلت حربه حرب إبادة على المدنيين والعمران والحياة كما لم يحصل، بمثل هذه الضراوة والمدة والأدوات، في تاريخ كل الحروب. إن ذلك كان هو العامل الأساسي في تحقيق انتصار، نسبي على الأقل، وهذا ما حصل في ما يخص المقاومة التي أفشلت أهداف العدو، وإن لم تتمكن من تعطيل قدرته على الدمار والإرهاب والقتل واستهداف ملايين الناس: في غزّة أولاً، وفي لبنان ثانياً.
دخلت المقاومة في لبنان هذه الحرب من موقع هجوم استباقي (دفاعي في الجوهر)، الأمر الذي عمَّق الانقسام الداخلي في بلد ترفع نسبة وازنة (ومقررة غالباً) من سياسييه وفعالياته المؤثرة، شعار «الحياد»، الموجّه أساساً ضد أي دور لبناني مناهض للسياسات الغربية عموماً. ثم إن الأزمة الطاحنة التي ضربت لبنان واللبنانيين بسبب النهب والفساد وعقم السياسات، والتباس موقف المقاومة منها تبعاً لأولوياتها، وحملة واشنطن لإلقاء مسؤولية الأزمة على سلاح المقاومة، قد شكّلت عامل ضغط على كل قرار بالغ التكلفة، كما هو الأمر بالنسبة إلى قرار «إسناد» غزة. وبالفعل خاض العدو حربه ضد المدنيين اللبنانيين، كما حصل في غزة، وفي كل المناطق التي تشكل بيئة حاضنة للمقاومة. زاد في الصعوبات أن المقاومة كانت وحيدة على الأرض: حيادٌ مطلق للجيش وقوى الأمن، وكأن المعركة في بلدٍ آخر. عجزُ أي فريق وطني لبناني عن الإسناد والمشاركة بشكل ولو جزئي. تعاظمُ التآمر الداخلي بتحريض من واشنطن خصوصاً، لإضعاف المقاومة وتوهين جمهورها تمهيداً للانقضاض عليها لاحقاً، بعد ضربها عسكرياً كما كانت تأمل وتخطط تل أبيب وواشنطن معاً.
لم تفعل الغارات القاتلة فعلها المنشود. لقد صمد جزء كبير من جمهور المقاومة وداعموها. في السياق لم تنجح، بشكل مؤثر، حملات التحريض على المقاومة في مدة الحرب. أول الأسباب، الموقف الشعبي والسياسي السلبي من العدو ومن جرائمه خصوصاً في غزّة. الثاني، القلق من اندلاع فتنة داخلية كان يخشاها الجميع ولو تظاهر البعض بعكس ذلك. لعبت دوراً مهماً أيضاً، في هذا الصدد، مواقفُ المقاومة نفسها لجهة حدود ومحدودية المواجهة في مرحلة «الإسناد» تقليصاً للخسائر العامة، وفي الصمود والمواجهة الباهرة في المرحلة الأخيرة. هذا إلى مواقف مسؤولة لعدد من القادة من بينهم الزعيم وليد جنبلاط، ووسطية «التيار الوطني الحر»، والمناخ البيروتي والطرابلسي المتعاطف مع غزّة سياسياً والرافض لدعوات الفتنة.
بيد أنه ينبغي التوقف، في هذا المجال، عند مسألة ما برز من خلل فادح في يقظة وحذر المقاومة، ومن اختراقات خطيرة تقنية وبشرية، في صلب أمنها. وهو خلل استمر واستشرى وتفاقم إلى درجة بالغة الخطورة وباهظة الأثمان على كل صعيد: منذ البدايات، وحتى اغتيال القائد الكبير الشهيد السيد حسن نصرالله! هذا إلى ما تبدّى من عدم التنسيق الكافي والضروري، بشأن إطلاق عملية «طوفان الأقصى» بين فرقاء «المحور»: لبلورة خطة مشتركة وشاملة، ولوضع «وحدة الساحات»، بشكل جدي، موضع التنفيذ الكامل، ولامتلاك تقدير صحيح، ولو نسبياً، بشأن التوازنات وردود فعل العدو وداعميه.
أمّا بالنسبة إلى الاتفاق وبنوده، فهو قد جاء على صورة الوسيط الأميركي، وضعف الموقف الرسمي اللبناني ممثّلاً بموقف الحكومة ورئيسها خصوصاً. كما جاء مشوباً بالتأثير السلبي للخسائر المشار إليها آنفاً، مرة في بعض البنود، وعموماً في مرحلتي التطبيق والرقابة: بقيادة مباشرة من الأميركي أيضاً! إن «الوساطة» الأميركية هي، دائماً، الوجه الثاني المكمِّل والاحتياطي للعدوان. كل ما جرى، منذ وقف إطلاق النار حتى اليوم، يؤكد ذلك، دون الحاجة إلى الاستفاضة في ما حصل. إنّ ما بدا وكأنه وقف إطلاق نار من طرف واحد، وتداركته قيادة المقاومة جزئياً، لم يكن سوى البداية في محاولة متكاملة العناصر والمراحل، لكي تحقق إسرائيل، بإدارة «الوسيط» الأميركي، بعد وقف إطلاق النار، ما عجزت عنه في أتون المواجهة. بذلك تكون الانتهاكات جزءاً أصيلاً من الاتفاق نفسه! تخوض واشنطن المعركة الآن، ومن الداخل اللبناني: بالتحريض على المقاومة، وبتغذية التناقضات الداخلية، وبمحاولة السيطرة على المواقع الأساسية، السياسية والأمنية، في مؤسسات الدولة، وبالتحكّم في إعادة الإعمار، وبالتهويل باستئناف الحرب… إذا لم يتم نزع سلاح المقاومة بالطرق السياسية.
المرحلة الراهنة، حيث الانتصارات والانكسارات النسبية، والمفتوحة على كل أنواع الصراع، تحتاج تناولاً لاحقاً أكثر تركيزاً، لجهة السمات والمهمات، خصوصاً بعد التدهور الدراماتيكي للوضع في سوريا.

قد يعجبك ايضا