الحرب على المقاومة مخطّط مرسوم مسبقاً
بشار اللقيس – وما يسطرون|
بعد هزيمتهم في حرب عام 2006، بدأ الصهاينة التحضير لحرب جديدة على لبنان، على الرغم من أنه آنذاك، كان بعض القادة العرب، ومعهم فؤاد السنيورة، يطالبونهم بمواصلة القتال. ووسط العجز الإسرائيلي عن القيام بذلك، طلبوا، وفق ما أعلن رئيس وزراء قطر السابق، وقف إطلاق النار.
مرّت سنوات على تلك الحرب، وتواصلت سياسة تهويد الأرض وارتكاب المجازر ضد الفلسطينيين، وسط صمت الأنظمة العربية، التي كانت تردّد كالببغاوات مطالبتها بتنفيذ ما سُمي بـ”المبادرة عربية”، والتي تحوّلت اليوم إلى معزوفة أخرى، تُعرف بـ”حل الدولتين”. وقبل ذلك، كان الأميركيون قد نجحوا في إنجاز “اتفاقية أوسلو” عام 1993، مع عصابة من الفلسطينيين التي باعت فلسطين. وأعقب ذلك استسلام الأردن في “معاهدة وادي عربة” عام 1994. هكذا، اعتقد الصهاينة والغرب أن سقوط مصر والأردن، جنباً إلى جنب صعود عصابة محمود عباس، كفيلان بتحقيق السلام للكيان الصهيوني وإسدال الستار نهائياً على الصراع مع الفلسطينيين. بناءً على التقديرات المشار إليها، حوّل الصهاينة اهتمامهم إلى الجبهة الشمالية، خاصة بعد تدمير العراق على يد الاحتلال الأميركي عام 2003.
وقبل “طوفان الأقصى”، كان المشروع الصهيوني يشهد “أفضل أيامه”؛ الأنظمة العربية كانت تتساقط واحداً تلو آخر، فيما أطلق الأميركيون، بتمويل عربي، ذئاب المنظمات التكفيرية، التي أمعنت قتلاً وتدميراً في العراق، ثم نقلوها إلى سوريا لتنجز المهمة نفسها التي مارستها في وادي الرافدين. وبعد إنهاك واستنزاف كل من سوريا والعراق، واصل الأميركيون تعبيد طريق التطبيع والتحالف بين إسرائيل وما تبقّى من النظام العربي الرسمي.
في فلسطين، أُعلنت القدس عاصمة لدولة إسرائيل باعتراف “الوسيط” الأميركي، الذي وافق أيضاً على ضم الجولان. لكن رغم ذلك كله، كانت ظاهرة المقاومة المسلحة للمشروع الاستيطاني حاضرة، وتشكل خطراً كبيراً، نظراً إلى انتشارها في قطاعات واسعة سبق أن كانت في سبات، أو تحاول تجاهل خطورة المشروع الصهيوني على بلادنا.
من جهته، شكّل لبنان، الذي ادّعى القادة الصهاينة بأنهم يستطيعون احتلاله بفرقة موسيقية، مفاجأة للجميع، بعدما ألحق الهزيمة بالإسرائيليين للمرة الثانية عام 2006. ثم كانت صدمة “طوفان الأقصى” الزلزالية، والتي هُرعت، في أعقابها، دول الغرب وأساطيلها لنجدة المشروع الاستيطاني المهدّد، بشكل عملي، لأول مرة منذ قيامه على أرض فلسطين.
الوقائع المذكورة أعلاه تثبت، من دون أدنى شك، أن مخططات تدمير المقاومة كانت قيد التحضير، وفي انتظار تنفيذها عاجلاً أم آجلاً. ومن أبرز الدلائل على ذلك، محاولة الصهاينة، أخيراً، غزو لبنان مجدداً، بهدف اجتثاث المقاومة، علماً أنهم لم يكونوا بحاجة إلى عذر للقيام بذلك. من هنا، فإن من يقول إن إسرائيل لم تعتدِ على لبنان إلا بسبب مساندة المقاومة اللبنانية للفلسطينيين، هو على ضلال، فالجيش الإسرائيلي كان يعلن باستمرار عن تنفيذ مناورات عسكرية تحاكي هجوماً على لبنان، كانت أبرزها تلك التي أجراها في قبرص، وفي الجولان المحتل، وفي الجليل. وأخيراً، أوضح نتنياهو، الأسبوع الماضي، أنه كان يخطط للهجوم على لبنان، بعدما أدرك أن المقاومة اقتربت من اكتشاف مخطط تفخيخ “البايجرز”، مؤكداً أن الحرب مع لبنان “لا علاقة لها بإسناد غزة”. بدورها، كانت المقاومة تدرك جيداً أن إسرائيل لن تتناسى هزيمتها مرتين في لبنان، وتستعد، بالتالي، لمواجهة معها.
أكّد نتنياهو أخيراً أن الحرب مع لبنان “لا علاقة لها بإسناد غزة”
بصورة أعمّ، فإن مسألة الهجوم على لبنان كانت في صلب استراتيجية الصهاينة منذ أن توقّف القتال في تموز عام 2006. واليوم فإن من يلقي الملامة على المقاومة بأنها هي التي تسببت بهذه الحرب هو – إذا أحسنّا الظن- جاهل لحقائق الصراع ولخطورة وأطماع المشروع الصهيوني، ولن نقول أكثر من ذلك. أمثال هؤلاء يعيشون في عالم من الخرافات والهلوسات والتمنيات والجهل. هم يؤمنون بأن القرارات الدولية تحميهم، لذلك “استقالوا” نهائياً من مهمة المحافظة على السيادة الوطنية منذ تأسيس الكيان اللبناني. ولا يزالون يعتبرون، بغباء، أن “قوة لبنان في ضعفه”، فيما جلّ همهم أن تكون المقاومة إلى جانبهم، في حفلات المناكفة الشخصية والصراع على المناصب في الداخل اللبناني.
عليه، من الضروري طرح سؤال برسم كل الذين يتبارون اليوم في طعن المقاومة: هل كانت القرارات الدولية سبباً لهزيمة الاحتلال وانسحابه من معظم الأراضي اللبنانية بعد غزو عام 1982؟ ألا يدرك هؤلاء، أن من أذل المحتلين وأخرجهم بالقوة هم أنفسهم الذين يتبارون اليوم في ما بينهم، في تقريعهم وإلقاء اللوم والتآمر عليهم؟ إلى ذلك، ماذا فعلتم لتحرير لبنان من المحتلين، أيها “السياديون” الحريصون على لبنان؟ ولا سيما أنّ الحروب الداخلية التي افتعلتموها في ما بينكم هجّرت وأفقرت اللبنانيين.
هل تناسيتم كم من المجازر التي ارتكبتموها بحق البشر، من دون أن تطلقوا رصاصة واحدة على المحتل؟ في المقابل، نحن نتذكر جيداً أن قسماً منكم تحالف مع الصهيوني على الملأ، كما يفعل اليوم. عليه، فإن من يطعن في أبطال بلاده، عليه أن يتذكر جيداً ما حدث لأمثاله عبر التاريخ.
بيد أنه يبقى من المستحيل، على الأرجح، إقناع طائفي موتور بأن الناس سواسية، وأنه لا تمايز لطائفة على أخرى، وأن هذا النظام الطائفي انتهى، وأنه من بديهيات المواطنة أن تدافع عن أرضك في حال تعرّضت لهجوم، وأن لا تتماهى مع المجرم القاتل وتعتبر أن عمله “فرصة” لتشكيل تركيبة حكم جديدة، بدعم أميركي وصهيوني وعربي. ألم تتعلموا من تجربة 1982؟
يقول المثل الشعبي: “من جرّب المجرب كان عقلو مخرب”؛ فمن الطبيعي أن يجري أي إنسان عاقل عملية نقد ذاتي وتصويب لأدائه الذي تسبب بالكوارث سابقاً. على أنه بدلاً من ذلك، نشهد اليوم تكراراً للممارسات الكارثية نفسها. هؤلاء الحاقدون الطائفيون من مختلف الطوائف يتوهمون أن الصهيوني والأميركي يعملان عندهم، وأن نتيجة تدمير لبنان ستقودهم إلى السلطة. أمثال هؤلاء مصابون بمرض مميت لا شفاء منه.
وبالعودة إلى غزوة عام 1982، والتي تشبه إلى حد كبير ما يجري الآن، لا بد من الاعتراف بأن هناك قسماً من اللبنانيين أرادوا – كما الآن – أن يكونوا أداة عند الأميركي والإسرائيلي، فتحالفوا مع الصهاينة الذين احتلوا بيروت. وبعد نجاح بيغن وفيليب حبيب بإخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان، بلغت نشوة “الانتصار” ذروتها. لكن في النهاية، أخرج المقاومون اللبنانيون، بالقوة، العدو والقوات المتعددة الجنسيات من لبنان، وانهار مع خروجهم مشروع بيغن. وفي المحصّلة، فإن من طرد الاحتلال من لبنان هو الذي عادوا مجدداً إلى محاربته اليوم، بعدما فشلوا في توريط المقاومة في حروب الزواريب اللبنانية. للأسف، فإنّ حفّاري القبور من الطائفيين لا يمكن أن يستبدلوا وظيفتهم بسهولة، ووضعهم يشبه وضع مريض يعاني من “الكلَب”. ومن يريد أن يعرف أكثر عن هذا المرض، عليه الاطّلاع على نهاية كل من يُصاب به.