تواطؤ وتجهيل!
سعد الله مزرعاني – وما يسطرون|
من يقرأ تصريح رئيس وزراء حكومة «السلطة الفلسطينية» لصحيفة «الشرق الأوسط» السعودية يوم الإثنين الفائت (ص. 2)، يشعر بأن الدنيا بألف خير! قال بحماسة وثقة، حسب الصحيفة: «إن لجنة المتابعة التي شكلتها القمة السابقة (قبل سنة تماماً) أنجح لجنة في تاريخ القمم العربية الإسلامية». اعتبر أن أكبر إنجازاتها هو «النشاط والتفاعل الإيجابي إقليمياً ودولياً»، إلى «نجاحها الباهر في مساعدة دولة فلسطين بالحصول على اعترافات جديدة». كان يُظن أن في جعبة الرجل أو المضيف السعودي، ما يبشر به بشأن وقف حرب الإبادة أو توقع خبر جيد بشأن موقف القمة منها، أو، حتى، أقله، بشأن إيصال بعض المساعدات إلى شمال قطاع غزة! أمّا بخصوص دور واشنطن، فطالبها المسؤول الفلسطيني بـ «جدّية أكثر، وبأدوات أكثر حدة، لوقف الحرب والاستجابة للمطالبات الدولية»… أي إن واشنطن تضغط على حكومة العدو، لوقف الحرب لكن بدرجة غير كافية! وهي بالتالي، ليست عرابة سياسة التوسُّع والعدوان الإسرائيلية، وليست شريكة فيها، طالما أنها «تضغط على العدو»!
ينبغي القول إن نبرة المسؤول الفلسطيني وتوصيفه ومطالبه كانت، من حيث الشكل والمضمون، أكثر ديبلوماسية و«لياقة» حتى من مقررات القمة نفسها! من الضروري التذكير بأن الرجل جاء إلى منصبه بطلب من الوسيط الأميركي نفسه، وبوعد حصول حكومته على دور في «اليوم التالي» بعد القضاء على حركة «حماس». لكن إسرائيل لم تلتزم وأصرت على حرب الإبادة والتطهير العرقي المتواصلة، مع ما تتطلبه من مجازر ودمار وتهجير وتجويع، منذ حوالى 408 أيام، بسبب «تعنت» «حماس» والمقاومة، وبسبب «عناد» المدنيين وإصرارهم على الصمود والبقاء في أرض وطنهم، حسب واشنطن! و«السلطة»، بعد، مغلوبة على أمرها، بسبب شراسة العدو ووحشيته وضراوة القوى الداعمة له وعدوانيتها. لكن في مثل وضعها هذا، يستحسن الاسترشاد بقول المتنبي: «فليُسعِد النطقُ إن لم تسعد الحالُ»… وبالمعنى الواسع للكلمة بما فيه السياسي والأمني!
الهدف هنا هو تفحص ما ينبغي أن يكون عليه دور أي مسؤول فلسطيني، ودور «السلطة الفلسطينية» خصوصاً، في ملحمة كفاح الشعب الفلسطيني من أجل الحرية وتقرير المصير واستعادة الحقوق. أثبت هذا الشعب، في مجرى كفاحه الطويل العابق بالبطولة والمثقل بالتضحيات، بأنه لن يتخلى عن الراية أبداً، مهما تكالب الصهاينة وداعموهم والمتواطئون. والاختبار الصعب هو الآن أكثر من أي وقت آخر.
أمّا القمة، وهنا الأساس، فهي استعاضت عن العصا الغليظة بالصوت المرتفع نسبياً، ولكن ليس في كل الحقول! لقد واصلت سياستها في القمة السابقة قبل سنة: بوصفها جهة شبه محايدة تطالب الآخرين ببعض الإجراءات، فيما هي تعفي نفسها من أبسط واجباتها! ثمة إصرار على مواصلة سياسة «السلام» المزعوم مع العدو، والتمسك بالعلاقات معه، السياسية والأمنية والاقتصادية… بل وتفعيلها إلى ما يتعدى الاتفاقيات لمصلحته (الإمارات مثالاً)، أو التراجع أمام تجاوزاته لتلك الاتفاقيات (القاهرة وعمَّان…). لا يخفى أن ذلك يثير أشد الاستغراب لدى أطراف عدة في العالم لجهة خذلان الشعب الفلسطيني والتخلي عنه في عظيم محنته وكفاحه. أولم يكن في مقدور أكثر من خمسين دولة أن تفعل شيئاً لوقف الحصار الهمجي المجاز والمحمي بالتضليل الأميركي الذي يكتفي بالمطالبة بـ«تخفيف» استهداف المدنيين.
وهو يتجاهل، فعلياً، منع المساعدات الإغاثية والخدمات الصحية، وتدمير كل أسباب الحياة، ما يجعل عشرات آلاف العائلات بأطفالها وشيوخها ونسائها، ضحية حرب بربرية لا تتأخر واشنطن وحلفاؤها عن تبريرها بذريعة «الدفاع عن النفس» وتحميل المسؤولية للضحية وليس للمجرم؟ وماذا عن «وساطة» واشنطن التي تصوغ بنود الإذعان نيابة عن العدو وتدير حملة تحريض ضد المقاومة، حتى عندما تجاهر قيادتها بالموافقة على المقترحات الأميركية، فيما ينقلب عليها العدو مواصلاً القتل والإجرام والإبادة… هذا إلى محاولة تسخير مجلس الأمن، ثم تعطيله، ثم تعطيل تنفيذ قراره اليتيم بوقف إطلاق النار، ثم تعطيل قرارات محكمتي «العدل» و«الجنائية» الدولية ووصف قرارات الأخيرة بـ«المخزية» (الرئيس بايدن نفسه). أمّا بالنسبة إلى وكالات الأمم المتحدة المعنية، وأبرزها «الأونروا» (التي استهدف الجيش المحتل العشرات من موظفيها)، فقد تبنت واشنطن وجهة نظر حكومة الفاشيين الصهاينة، وسارعت إلى قطع المساعدة عنها وشجعت أبرز حلفائها على ذلك.
أمّا بالنسبة إلى الرياض، فهي خبيرة في السياسات الأميركية. أوليست هي من تقدّمت قبل 22 عاماً، في قمة بيروت، بمبادرة أقرتها القمة، تحت عنوان: «الانسحاب الشامل مقابل السلام الشامل»؟ وصف نتنياهو المبادرة بأنها «لا تستحق الحبر الذي كتبت به»! رغم أن المبادرة قدمت تنازلاً مجانياً، لكن حكومة العدو نظرت إليه بوصفه أساساً لسلسلة لا تنتهي من التنازلات إلا بتصفية كاملة للقضية الفلسطينية. تكرر قيادة المملكة هذا الأمر، بالأمس واليوم، لأنها تعرف جيداً السياسة الأميركية!
رمت مقررات القمتين العربية والإسلامية، الأولى والثانية، مسؤولية نتائج جرائم حرب الإبادة والتطهير العرقي على «المجتمع الدولي». لم يصدر عن القمة، بالنسبة إلى واشنطن وحلفائها، إلا تلميح خجول بشأن «ازدواجية المعايير» في التعامل مع الأزمات. أما الانحياز للعدو والمشاركة في جرائمه، بالتخطيط والتمويل والتسليح والحماية والأساطيل والدعم السياسي والديبلوماسي، فلم يرمهما القيمون على القمتين ولو بوردة.
والتساؤل هنا: إذا كان هذا هو الوضع في العلاقة مع الإدارة الأميركية الحالية، فكيف سيكون مع الإدارة الجديدة التي يراهن عليها نتنياهو، استناداً إلى «كرمها» السابق معه وفقاً للمبدأ العدواني «البلفوري»: «أعطي من لا يملك لمن لا يستحق»! وكيف سيكون الموقف السعودي أيضاً، وهو الأقرب إلى ترامب؟
أمّا ما تحقق من إنجازات لمصلحة القضية والشعب الفلسطيني، فإنما تحقق بتضحيات الفلسطينيين وآلامهم وبطولاتهم: رغم واشنطن والمطبعين الذين ستحل عليهم لعنة الأجيال والتاريخ، على ما فعلوه أحياناً، أو ما لم يفعلوه في غالبية الأحيان.
صحة المواقف تبدأ من: تحديد العدو من الصديق، والمجرم من الضحية. وهي لا تستقيم أبداً مع التواطؤ وتجهيل المجرم، والتغطية على ارتكاباته ومسؤولياته. استناداً إلى كل ذلك وسواه، وإلى تواصل المذبحة وتماديها من قبل العدو الصهيوني وشركائه، لا يجوز تصنيف لجنة متابعة القمة العربية – الإسلامية، في دوريتها بأنها «الأنجح»، وأن نتائجهما «باهرة وتاريخية»! إنها على النقيض من ذلك حتى إشعار آخر!