جذريّة الخطّة وجذريّة الردّ
سعد الله مزرعاني – وما يسطرون|
عشية عملية «طوفان الأقصى»، صرّح نتنياهو منفعلاً: «سنعيد رسم خريطة الشرق الأوسط الجديد». لم يكن الأمر مجرد ردّ فعل طارئ وعابر بسبب نكسة «الطوفان». لم يكن، كذلك، «سكرة» مؤقتة ولَّدها تسابق قادة الأطلسي حاجين إلى تل أبيب، متضامنين داعمين. كان ذلك، بالنسبة إلى «بيبي» استحضاراً لحلم طالما راوده: أن يكون «ملك إسرائيل» الأبرز والأهم بعد المؤسسين أو قبلهم، وبما يتخطى أرييل شارون الذي حمل اللقب نفسه خصوصاً بعد «ثغرة الدفرسوار» في «حرب التحرير» عام 1973.
لقد أصر نتنياهو على استحضار أهدافه الجذرية، العامة والشخصية، ساعياً إلى تحويل الأزمة إلى فرصة. وهو جاهر بذلك، أكثر ما جاهر، بعد تمكّنه من تنفيذ ضربات ناجحة ومؤلمة في أكثر من ساحة: في غزة بمواصلة حرب إبادة شاملة وتطهير عرقي، لم يمنعه من المضي فيهما أحد، رغم هول الجرائم التي ارتكبها وأجهزته، ولا يزالان، ما حوَّلها إلى حرب مجازر وحشية وضارية وشاملة ضد كل الشعب الفلسطيني، وضد كل أشكال الحياة والعمران والنشاط في قطاع غزّة خصوصاً.
في لبنان، سارعت الآلة الوحشية نفسها إلى تنفيذ سلسلة اغتيالات بلغت ذروتها في غارات هائلة شارك فيها الكثير من الأجهزة الغربية والعربية، وعشرات الطائرات، ومنها أميركية، والتي ألقت أطناناً من المواد والأجسام المتفجرة بهدف اغتيال القائد الاستثنائي في «حزب الله»، وفي «محور المقاومة»، وفي المدى التحرري الإقليمي والدولي، السيد حسن نصرالله. أعقب ذلك، فوراً، تكرار الأمر نفسه في عملية اغتيال القائد الكبير في «حزب الله» السيد هاشم صفي الدين. وقبل ذلك وبعده، نجحت الأجهزة العسكرية والأمنية الإسرائيلية في اغتيال عدد كبير من القادة السياسيين والعسكريين والميدانيين في «حزب الله» وفي حركة «حماس» وفي «الحرس الثوري» الإيراني: في لبنان ودمشق وطهران… وفي هذه الأخيرة تمكّنت الأجهزة الإسرائيلية من اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» إسماعيل هنية في عملية استهدفت، أيضاً، أمن المدينة والبلاد، وتحدّت سلطاتها القديمة والسياسية الجديدة.
في كل ذلك، كانت، ولا تزال، الإدارةُ الأميركية داعمة وشريكة للسلطات الإسرائيلية في عملياتها ومواقفها وتطرفها وجرائمها، خلافاً لكل الاتفاقيات والشرائع والمؤسسات الدولية والإنسانية. واشنطن برَّرت وشجَّعت وقدَّمت كل أشكال الدعم السياسي والمادي والعسكري والاستخباراتي والأمني والديبلوماسي والإعلامي.
أدّى كل ذلك، فضلاً عن الصمت المشين من قبل «المجتمع الدولي» الذي تهيمن عليه واشنطن، وكذلك التواطؤ المريب من قبل المطبِّعين العرب والمتخاذلين من غير المطبّعين، إلى شعور الحكومة الإسرائيلية المتطرفة بقيادة نتنياهو، بأنها تستطيع أن تفرج عن كل أطماعها وطموحاتها وأحقادها وأساطيرها، دفعة واحدة. أمّا نتنياهو، على المستوى الشخصي، فكان، قبل «الطوفان»، قد شكَّل حكومة أملاها عليه أمران: الأول، سعيه الدؤوب إلى البقاء في رئاسة الحكومة، طلباً للحصانة، ومنعاً، أو تأجيلاً، للمحاكمة فالإدانة. الثاني، ما فرضته وتفرضه عليه أطراف «الصهيونية الدينية» من شروط لجهة التوجه العام في الحرب وقبلها وبعدها: في الحقائب الحساسة والمهمة، وفي المواقف والتوجهات والعلاقات، وما يرتبط بها من أولويات وأساليب عمل وممارسات بالغة التطرف والاستفزاز، كبناء ميليشيات خاصة من غلاة المستوطنين وتسعير عصبيات وسلوكيات دينية وشاذة إلى التهديد بإسقاط الحكومة في حال وقف إطلاق النار، أو القبول بتسويات بشأن عودة المحتجزين، أو بشأن الاعتداءات الدموية والمصادرة والاقتحامات في الضفة الغربية المحتلة، أو تكرار اقتحام المسجد الأقصى.
تكاملت معركتا نتنياهو، العامة والشخصية، في معركة واحدة. شدَّد، في كل الحالات، على «الخطر الوجودي» وعلى الطابع الشامل للمعركة. وزَّع خرائط مشاريعه التوسعية العدوانية من على منبر الأمم المتحدة التي لم يتردد ممثلوه في شتم جمعيتها العمومية وأمينها العام، بسبب تصويت الأكثرية الكاسحة فيها على حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولة مستقلة خاصة به. وإذ استحضر في خطابه الأخير أمام الكنيست مرحلة «النهضة»، فقد أكَّد أنه في «أوج تغيير تاريخي في الشرق». هذا يعني أن «إبعاد حزب الله» عن الحدود مع فلسطين المحتلة، ومنع عودة «حماس» وسلطتها إلى غزة، ليسا هما الهدف، بل هما خطوتان في خدمة «التغيير التاريخي» المنشود. وهو تغيير يبدأ، حسب نتنياهو، «بمصالحة تاريخية من العرب واليهود»… أما الخطوات العملية المشار إلى بعضها، فهي في خدمة مسار توسعي مفروض بالإكراه والإرهاب. وهو يتضمن توطين النازحين السوريين في لبنان، ونفي سكان الضفة الغربية المحتلة وطردهم إلى الأردن. أمّا سكان غزة، فإلى مصر. وفي الخطة تلك تدبير مثير أيضاً يقضي بنقل شيعة لبنان إلى العراق. وهو هدف سبقته مؤشرات تطرح الكثير من علامات الاستفهام بشأن الموقف الرسمي العراقي نفسه من هذا الموضوع!
إن طرح نتنياهو هذا لا يجعل المخطط المذكور جديداً، إنه نسخة محدَّثة عن مشاريع أميركية متلاحقة بأسماء: «الشرق الأوسط الكبير» (بوش الابن)، و«صفقة القرن» (ترامب) والاتفاقات الإبراهيمية (بايدن والحزب الديموقراطي)… وكلها يحمل، عموماً، الأهداف نفسها، وإن تنوّعت الوسائل. نتنياهو نفسه أشار، في خطابه الأخير، إلى أن «الطوفان» استهدف المسار التطبيعي وخصوصاً مع السعودية.
إذاً، إن استحضار هذه الأهداف الكبيرة والشاملة كان من قبيل تحويل أزمة عملية «طوفان الأقصى» إلى فرصة كما شاء نتنياهو والحكومة الأميركية، ولكن بالأهداف السابقة على الحدث، كما ذكرنا، وهي أهداف يقع في نطاقها وخدمتها مشروع إسرائيل الكبرى والخرائط المعلنة وغير المعلنة التي يرمز إليها «التغيير التاريخي» الذي أشار إليه نتنياهو ووضعه تحت عنوان مرحلة «النهضة».
هكذا يمكن تفسير كل ذلك العنف الهمجي، وذلك التدمير والإبادة والتطهير العرقي والتهجير والتجويع وحظر وكالات الأمم المتحدة وأبرزها «الأونروا» ووسمها بـ«الإرهاب»، بوصفها أدوات تخويف وتيئيس وتطهير، بلغت ذروتها في غزة المأساة والصمود، وفي لبنان بمحاولة تدمير وتهجير الجنوب والضاحية والبقاع، فضلاً عن الضفة الغربية المحتلة.
لا يجب الاستهانة بكل ما تقدّم ولا بالإمكانات الموظَّفة في خدمة المشروع الإرهابي الصهيوني. يقع الدعم الأميركي الهائل في مقدمة أسباب قوة هذا المشروع باعتباره أداة من أدوات مشروع السيطرة الأميركية على المنطقة وعلى العالم.
لمثل هذا النوع من الأخطار والمخاطرالإرهابية المحدقة ينبغي أن يتشكّل الردّ: أهدافاً وأدوات وتحالفات وجبهات ووسائل نضال. وقبل هذا وبعده، إرادة صمود ومقاومة تحفزها بطولات وانتصارات وتضحيات أثارت دهشة العالم.