البروتستانت ومرتكزات الدعم الأمريكي للصهيونية وعلاقتها بالنظام الرأسمالي
محمد بن عامر – المساء برس|
في عالم يزداد تعقيدًا، تتشابك فيه المصالح السياسية والاقتصادية والدينية على نحو يثير الدهشة والفزع في آنٍ واحد، يتساءل الكثيرون: من يدير هذا العالم فعلاً؟ هل هم السياسيون المنتخبون أم أصحاب الأموال؟ أم أن هناك قوى خفية، عقائدية أو دينية، تحرك المشهد من وراء الستار؟ في هذا السياق، تبرز البروتستانتية والصهيونية المسيحية كعقيدتين تمتد تأثيراتهما إلى عمق النظام العالمي الحالي، مما يثير تساؤلات حول ارتباطهما بمواقف جيوسياسية حاسمة، مثل الدعم القوي لليهود في الشرق الأوسط، وتحديدًا في فلسطين المحتلة.
لكن هل يمكن القول بأن البروتستانتية، عبر أذرعها السياسية والدينية، هي من تدير العالم؟ وهل الصهيونية المسيحية هي المحرك الخفي الذي يسعى لتحقيق “النبوءات التوراتية” على حساب استقرار الشرق الأوسط؟ أم أن هذه مجرد نظرية مؤامرة تتغذى على الصراعات التاريخية والدينية؟ في هذه المقالة، سنحاول سبر أغوار هذه الفرضيات وتفكيك العلاقة المعقدة بين البروتستانتية، الصهيونية المسيحية، والنظام العالمي الرأسمالي الراهن.
تداخل العقائد الاقتصادية وتشكيل المجتمعات الحديثة
“الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية”، كتاب لـ عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، يتناول فيه علاقة البروتستانتية بتكوين الرأسمالية الحديثة، وكيف أن البروتستانت أغنى من الكاثوليك بسبب اهتمام البروتستانتية بمناهج الحياة وتحريضها أتباعها على مجموعة من المبادئ مثل الفردانية والعمل الحر. يرى فيبر عالم الاجتماع الألماني علاقة جوهرية بين العقيدة البروتستانتية وروح الرأسمالية التي ظهرت في أوروبا خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر. ويقول إن الطبقات الاجتماعية العليا في المجتمعات البروتستانتية هي نتيجة حتمية لهذه العقيدة، وأن البروتستانت هم أصحاب النفوذ والثروة في المجتمعات الغربية، وهم الذين ساهموا من خلال عقيدتهم في نشأة الرأسمالية الحديثة.
درس فيبر حركات الإصلاح الديني المناهضة للكنيسة الكاثوليكية من مارتن لوثر إلى جان كالفن الذي أضاف إلى تعاليم لوثر قيمًا دينية واقتصادية جديدة، مثل إباحته للربا على القروض، الذي حرمته الكاثوليكية وباقي الأديان السماوية الأخرى. على الرغم من أن الطائفة البروتستانتية تعددية، إلا أن مذهب الجبرية الكالفيني هو ما أثر في تكوين الرأسمالية الحديثة، المذهب الذي يؤمن بالاصطفاء الإلهي لفئة محددة من بني البشر، والله وفقًا لهذا المذهب قد اختار بعض الناس دوناً عن الباقين لحياة أبدية سعيدة، وهؤلاء المصطفون هم من يعيشون حياة تقشفية وزاهدة في الدنيا.
وهكذا، فإن الكالفينية جعلت أتباعها يعيشون في حالة من القلق الديني دفعت الطهرانيين منهم إلى دمج حياتهم الدينية مع مهنهم، ومن ثم ظهرت حياة مهنية دينية تهدف إلى تحقيق النجاح المادي كدليل على الاختيار الإلهي. وأصبح العمل لدى الكالفينيين وسيلة لمواجهة القلق الديني من ناحية، وسبيلاً إلى تحقيق الغنى كعلامة من علامات الاختيار للخلاص من ناحية أخرى. فكرة “الاختيار المسبق” (أي أن الله اختار مسبقًا من سينال الخلاص ومن لن يناله)، والمختارون هم أولئك الذين يتمكنون من بلوغ أعلى مراتب النجاح المادي والاجتهاد في العمل، وهي علامات ينظر إليها كدليل على نعمة الله وحسن اختياره.
على النقيض
المفكر الألماني فيرنر سومبارت ذهب إلى نقيض ما تحدث عنه ماكس فيبر في كتابه ( اليهود والرأسمالية الحديثة ) بالإشارة إلى أن الاخلاق والقيم اليهودية، وليس البروتستانتية، هي صانعة الرأسمالية الحديثة. قدم منظور سومبارت تفسيرًا بديلاً لأصول الرأسمالية الحديثة، واضعًا المجتمع اليهودي في مركز هذه العملية التاريخية، على النقيض من تأكيد فيبر على دور الأخلاق والقيم البروتستانتية. كان نقد سومبارت الرئيسي لأطروحة فيبر هو أنه تجاهل المساهمات الكبيرة للمجتمع اليهودي في صعود الرأسمالية الحديثة، وأن الشتات اليهودي، بتقاليده التجارية القوية وفطنته المالية، لعب دورًا رئيسيًا في انتشار الممارسات والمؤسسات الرأسمالية في جميع أنحاء أوروبا.
العالم الاجتماعي الشيوعي كارل ماركس تناول البروتستانت ضمن أعماله الأوسع خاصةً في “رأس المال” وكتاباته الصحفية، ولم يكن تناوله لها إيجابيًا، بل انتقدها من منظور مادي تاريخي، مُركزاً على علاقتها بتطور الرأسمالية، وبالأخص فرعها الكالفيني الذي يعتبر في بعض الفرضيات “اليد الخفية” المتحكمة في مجريات العالم. نجد من هذه الأطروحات أن مبادئ البروتستانتية أسهمت في صياغة “روح الرأسمالية” بتحويل تراكم الثروة من خطيئة – كما كان يُنظر إليها في ظل هيمنة المذهب الكاثوليكي الذي لم تكن رؤيته الشمولية تتلاءم مع النظام الرأسمالي والصناعي القائم على المنفعة المادية والنظرة الدنيوية – إلى مؤشر على النجاح الروحي بحيث تكون الأولوية للمكاسب المادية والنجاح الدنيوي. ومن المهم ملاحظة أن تحليل المفكر الماركسي كان مبنيًا على مفهومه المادي التاريخي، وهو مفهوم يُفسر التاريخ باعتباره صراعًا بين الطبقات الاجتماعية.
النزعة الاستعمارية والعهد القديم
من هذا يمكننا أن نستنتج أن هناك علاقة بين الصهيونية والثورة الصناعية، فضلاً عن إرساء الرأسمالية الحديثة، وهذا واضح بشكل خاص في حقيقة أن النزعة الاستعمارية والتوسعية للصهيونية المسيحية تتوافق بشكل كبير مع منطق النظام الرأسمالي (الإمبريالية). ويتضح أن العلاقة الجدلية بين البروتستانتية والرأسمالية، وكذلك بين البروتستانت والصهيونية المسيحية، تعود جذورها إلى بروز الأفكار الدينية والعقائد الاقتصادية التي غُرست في المجتمع الأوروبي خلال القرون الـ 16، 17، 18، ومهدت الطريق لنمو الرأسمالية وتنامي نفوذ اليهود فيها.
كان هناك تاريخ طويل من التفاعل والتواصل بين المسيحيين واليهود في أوروبا، وتجلى هذا بوضوح عقب نشوء المذهب البروتستانتي في القرن السادس عشر، والذي كان يعطي أولوية تقديم العهد القديم على العهد الجديد، مما خلق نوعاً من التقارب الثقافي والديني بين اليهود والبروتستانت. والعهد القديم، بما يحويه من نصوص تتحدث عن الثراء والازدهار المادي، يعتبر متوافقًا مع أهداف الرأسمالية، مُشكّلاً إطارًا أيديولوجيًا لدعم هذا التوجه. والعديد من الحكايات والقصص في العهد القديم تصف بتفصيل حياة الأنبياء والقادة الذين حازوا على الثروة والسلطة، وتمجد المنافسة والطموح الفردي في سبيل الوصول إلى المكانة والمقام الاجتماعي كهدف أسمى للإنسان.
من الضروري التوضيح أن العهد القديم هو مصدر التشريع الديني اليهودي، يحتوي على التوراة (الخمسة أسفار الأولى) تروي قصة الشعب اليهودي من بداياته مع النبي إبراهيم حتى فترة ما قبل العصر الهلنستي، وهو المرجع الرئيسي للرؤية الكونية والخطة الإلهية للبشرية من منظور اليهود.
تاريخيًا، اليهود تغلغلوا في عالم المال والاقتصاد، وكانوا تجارًا وسماسرة في الحضارات الكبرى، ويمارسون أنشطتهم في التجارة والربا والمصرفية، حتى أنهم أصبحوا مع مرور الوقت في أوروبا هم الوحيدون المسموح لهم بإقراض الأموال، وهذا ساهم في تراكم ثرواتهم بسرعة خاصة بالتزامن مع تزايد الطلب على النقد في ذلك الوقت.
النبوءات التوراتية
بدأت العلاقة الأكثر خصوصية بين الصهيونية اليهودية والبروتستانتية الأصولية مع كتابات مارتن لوثر في عام 1523، ودفاعه المستميت عن اليهود خلال كتابه “المسيح ولد يهودياً” واعترف بأصولهم المشتركة مع المسيحيين، وذلك قبل أن ينقلب لاحقًا على أفكاره السابقة التي انتقد فيها اليهود وطالب بطردهم من أوروبا. وتكررت هذه الأنماط من معاداة السامية، التي تحولت إلى دعوات صهيونية، في الحضارة الغربية، مثلما يتضح في مقدمة آرثر جيمس بلفور لكتاب ناحوم سوكولوف عن تاريخ الصهيونية، التي تشير إلى أن الدوافع وراء دعمها لم تكن دائماً خالصة، إنما تكون مدفوعة برغبة في التخلص من اليهود من أوروبا، باستخدام فلسطين كحل نهائي.
لكن الكنيسة الأصولية البروتستانتية كان لها وجهة نظر مختلفة تتمثل في الاعتقاد بأن قيام “دولة إسرائيل” هو أمر ديني، لأنه تجسيد لنبوءات الكتاب المقدس، وترى أن من واجبها الدفاع عن اليهود وحقهم في وطن، على اعتبار أنهم هم شعب الله المختار، والمفضل على سائر الأمم، وأن هناك عهدًا إلهيًا يربط اليهود بفلسطين، وامتد هذا الاعتقاد إلى المجيء الثاني للمسيح، والذي كان يعتقد أنه مرتبط بإنشاء “دولة إسرائيل الصهيونية” في فلسطين.
ما نتفق عليه حاليًا هو أن التفاعل المركب بين هذه الثلاثية الفكرية والسياسية – البروتستانتية والرأسمالية والصهيونية المسيحية – أسهم لدرجة كبيرة في إعادة هندسة النظام العالمي الجديد في القرنين التاسع عشر والعشرين، وأن الدعم السياسي والاقتصادي المتبادل بين هذه المكونات قاد إلى بلورة مراكز القوى الجديدة في الغرب، وانتشار النفوذ الاستعماري والرأسمالي في مناطق مختلفة من العالم، بما في ذلك الشرق الأوسط، إلا أن ما يثير الاهتمام أكثر هو إرهاصات ودعائم صعود الصهاينة إلى منطقة القدرة على التحكم بالقرار الأمريكي، وعما إذا كانت الأسباب تعود لمعتقدات دينية أم لعوامل سياسية وجيو – اقتصادية.
كان ذلك في أوائل القرن السابع عشر عندما زرعت بذور الصهيونية المسيحية لأول مرة، وحين بدأت مجموعة من اللاهوتيين البروتستانت، مدعومين بالتفسير المتحمس لنبوءات الكتاب المقدس، في الدعوة إلى إعادة الشعب اليهودي إلى وطن أجداده ضمن أيديولوجية تقوم على فكرة أن عودة اليهود إلى فلسطين من شأنها أن تعجل بالمجيء الثاني للمسيح، ومن ثم تتحقق خطة نهاية العالم التي وضعها الله، وفقًا للمعتقد الصهيوني.
الحركة الصهيونية سرعان ما اكتسبت قوة جذب بين الدوائر الإنجيلية، وشقت طريقها من أروقة البيت الأبيض إلى مجالس إدارة الشركات المتعددة الجنسية إلى مواقع النفوذ، وتشكيل السياسة والآراء بما يتناسب مع أجنداتها الأخروية المزعومة. طبعًا البروتستانت الأمريكيون يمثلون أكبر القوى الداعمة لإنشاء “الوطن القومي لليهود في فلسطين”، إذ يشكلون أكثر من 65% من المسيحيين في الولايات المتحدة، مقابل 30% فقط من الكاثوليك. وتستخدم الحكومات الأمريكية تفسيرات دينية لتبرير دعمها للصهاينة، ومن أمثله ذلك ما ذكره جيري فالويل من أن “الله بارك أميركا لأن أميركا باركت اليهود”.
اللوبي الصهيوني والدعم الأمريكي
الحركة الصهيونية نجحت في تأسيس شبكة متشعبة من المؤسسات بهدف توفير كافة أشكال المساندة لما تسمى “دولة إسرائيل”. وبذلك أضفت الحركة الصهيونية طابعًا مؤسسيًا على موقف الولايات المتحدة الداعم لمشروعها. وأصبحت هذه الشبكة المترابطة من المنظمات الصهيونية آلية فعّالة لتوجيه السياسة الأمريكية لخدمة أهداف الحركة الصهيونية. وتُعدّ لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (إيباك)، أبرز هذه المؤسسات، فهي تشبه إلى حد كبير منظمة “مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل”، وتعمل جنبًا إلى جنب مع مؤسساتٍ أخرى قوية، مثل “مؤتمر القيادة المسيحية من أجل إسرائيل” و”السفارة المسيحية العالمية في أورشليم”، لتشكيل قوة ضغط مؤثرة تُعزز موقف الكيان الإسرائيلي في الساحة الدولية.
وهيمنت هذه المؤسسات، على عملية صنع القرار الأمريكي، مُؤمِّنة بذلك تدفّق مليارات الدولارات من المساعدات لإسرائيل، مع إخماد أي انتقاد لسجلها الحقوقي. خلال حرب 1967 على سبيل المثال، قدمت أمريكا للكيان مساعدات تفوق ما قدمته له طيلة الـ 20 عاماً السابقة، وفي عام 2016، وقعت إدارة الرئيس الأمريكي السابق أوباما اتفاقية مع الإسرائيليين تقضي بتزويدها بحزمة مساعدات تبلغ قيمتها 38 مليار دولار خلال عقد كامل. ويأتي الدعم الأمريكي للكيان الإسرائيلي أيضاً على شكل أسلحة متطورة ومتقدمة تساعد في تطوير جيشها، إلى جانب الدعم السياسي غير المحدود في الأمم المتحدة وغيرها من المحافل الدولية.
مما تقدم، يمكن القول أن الدعم الأمريكي للصهيونية، المتجذر في علاقة معقدة بين البروتستانتية الأصولية والرؤية الجيوسياسية للولايات المتحدة، لا يمثل مجرد تحالف استراتيجي عادي. فالكيان الإسرائيلي بالنسبة للولايات المتحدة إلى جانب كونه قلعة جيوسياسية تُؤمِّن نفوذها، وتحافظ على مصالحها الاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط الغنية بالنفط والموارد، فهو كما تحدثنا آنفًا يرتبط بالمعتقدات الدينية التي تؤمن بها البروتستانتية الأمريكية، وبالتالي التفسير الإنجيلي لنبوءات العهد القديم حول عودة اليهود إلى أرض فلسطين قد أرسى الأساس اللاهوتي للدعم الأمريكي المتواصل للمشروع الصهيوني.
إجمالاً، تكمن خلف الأسباب المذكورة حقيقة أعمق وأكثر قتامة: لقد أسهم الدعم الأمريكي في ترسيخ نظام يُعطي الأولوية لمصالح القلة على حساب الكثرة، ويميز الإيديولوجية على الإنسانية، ويخلق عالمًا فيه السعي إلى السلطة والنفوذ هو الهدف الأسمى بناء على مبدأ “الغاية تبرر الوسيلة”، دون أدنى اهتمام بالعدالة الاجتماعية، وبحقوق الإنسان، وبالمعاناة التي تلحق بالشعوب نتيجة هذا النظام القائم على الظلم والهيمنة.