أسئلة الناس والحرب
صادق النابلسي – وما يسطرون|
هذه مجموعة من الأسئلة التي تدور بين الناس وعن الحرب. وأجيب عنها من منظوري وإدراكي المعرفي من دون أن أتطاول على «الغيب» الذي يحيط بكل شيء علماً، ونحن إنّما نفعل ذلك بناء على تجربتنا وتفاعلنا مع الظواهر والأحداث ومن منطلق هويتنا البشرية، الهوية القابلة للخطأ والصواب، والتماسك والتفكك، والقوة والضعف، دون حتميات مسبقة تثبّط الهمم دون مبرر، أو تشحذها دون أساس. فإنساننا هو الإنسان نفسه في أي مكان على هذه الأرض، قابل للانتصار عندما يلتزم بالأسباب المادية والمعنوية، وللانكسار عندما يتخلّى عنها.
ونحن حينما نقلّب صفحات الأمس القريب ونتأمل صوره ونتمثّل مشاهده، ننظر من زاوية إلى خصوصيتنا ومن زاوية أخرى إلى خصوصية الآخر، فلا نهوّن من قدر الآخر ولا من قدر أنفسنا، وكذلك لن نعظّم من قدره ولا من قدر أنفسنا، بل نضع الأمور في موازينها الصحيحة، نرصده ونرصد أنفسنا بكل ما تحتويه دواخلنا من قوى إيجابية وسلبية، مادية وروحية، بارزة وجوفية. ونحن حين نفعل ذلك ننزع عن الآخر أي هالة عجائبية ألصقها بنفسه دون أن ننكر عليه قوته الذاتية المادية، وفي الوقت نفسه لا نجرد أنفسنا من الطاقات الحقيقية التي تتعامل مع الحقائق الصلبة بثبات ووعي وإيمان ومقاومة لا حدود لفرادتها واجتهادها.
السؤال الأول: ألم يكن قرار فتح جبهة الإسناد من قبل الأمين العام لحزب الله مغامرة يائسة، ورد فعل عصبي وانفعالي في لحظة يحتاج فيها الكل إلى تهدئة الثور الإسرائيلي الهائج وعدم استفزازه بالمواقف العالية أو الأفعال العالية. ذلك أنّ الحماسة الزائدة، فضلاً عن الذهاب إلى أبعد نقطة في تحدي العدو، ستدفعه إلى تدمير لبنان وإعادته إلى العصر الحجري كما صرح أكثر من مسؤول إسرائيلي، بل سيجعله أمام خيار «هستيريا الضرورة» و«عقدة شمشون» التي تعني في المثل الدارج «عليَّ وعلى أعدائي»؟
الجواب: مشكلة هذا النوع من الأسئلة السياسية والشعبية أنّه يتعامل مع مستوى واحد من الواقع، أي مع قوة العدو المادية وتعطّشه للدماء ورغبته في تفريغ شحناته الغضبية بطريقة جنونية. لا يتعامل مثلاً مع الإطار العقيدي الذي ما زال قائماً وحيّاً وهو الذي يحرّك السيد وأمّته ويصوغ أقوالها وأفعالها وأحلامها وتوجهاتها السياسية والجهادية، وأنّ المقاومة وفقاً لهذه الرؤية عندما تسند غزة تشكل خط الدفاع عن حصون الإنسانية والأخوة الإيمانية ضد الهمجية والعدوانية الصهيونية. وإذا كان نظام القيم الإنسانية قد تآكل على مستوى العالم، فهذا لا يجوّز التراجع عن ثوابت إيمانية وإنسانية بديهيّة، وإذا لم يبقَ من المتصدّين لجرائم العدو سوى المقاومين فلا يسوغ ذلك التراجع بحجة قوة الطرف المعادي وإمكاناته المادية الكبيرة. إنّ المسألة أعمق من البناء الذي دُمّر والقلب الذي انفطر. إنّ قرار الأمين العام يعكس المواجهة الهائلة السياسية والعسكرية بين فئة مستضعفة تطلب حقها وقوى استعمارية كبرى تنكر عليها هذا الحق، مواجهة تدور بين مقاومة شرعية تُقرّها القوانين الدولية والأعراف الإنسانية، وعدو يغتصب الأرض ويرى كالحيوانات المفترسة أنّ لا طريق للبقاء إلا عبر الدم. مواجهة بين رؤيتين إحداهما تمجّد القتل والنار والإبادة وتعتبر السيف هو المحرك للتاريخ والتقدّم، وأخرى تنطلق من رفضها للظلم وتتمرد عليه وتقاومه، وهي رؤية إسلامية إنسانية أصيلة. وبهذا المعنى، فإنّ وجوب الدفاع عن غزة هو وجوب يستند إلى مرجعية دينية إنسانية، وأي محاولة لفصل البعد الإنساني والديني عن عملية اتخاذ القرار يجعل من العسير على أي أحد أن يُفسّر ما يحدث الآن. الأخوة الدينية والإنسانية إذاً، أساس في صياغة القرار الذي تدخل فيه أيضاً الفطنة والمصلحة بالمفهوم الوطني والقومي والإستراتيجي، وقد أحسن الشاعر بلغته الرمزية في تصوير واستيعاب ما هو واقع الآن بقوله:
«وإذا تركت أخاك تأكله الذئاب… فاعلم بأنّك يا أخاه ستُستطاب
ويجيء دورك بعده في لحظة… إن لم يجئك الذئب تنهشك الكلاب
إن تأكل النيران غرفة منزل… فالغرفة الأخرى سيدركها الخراب».
العدوان على غزة ثم لبنان هو عدوان على من يحمل لواء العدل والإنسان، والمقاومة هنا وهناك تدافع عن العدل والإنسان ضد أولئك البرابرة الذين يرون الحل في ابتلاع حقوق الآخرين وإبادتهم والسيطرة على مواردهم والتحكم في سياستهم والهيمنة على أفكارهم وتغيير قيمهم الثقافية وهويتهم الدينية. قرار السيد الشهيد انطلق من فهمه العميق أن العدوان الأميركي الصهيوني هو جزء من عملية حضارية غربية تفترض مركزية الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة الأميركية، في قيادة مطلقة للعالم وتحديد اهتماماته وتفضيلاته ومساحات حركته وأطر تفكيره وأساليب عيشه، وليس العدوان العسكري إلا الوسيلة للوصول إلى نتيجة ينسحق فيها الكل أمام الآلة المتوحشة التي تلجأ إلى البطش عندما يكون مَن يواجهها يرفع شعار «هيهات منّا الذلة».
المقاومة تنطلق من وعي كامل بالدوافع الحقيقية الكامنة في هذا المشروع، فهي تعرف أنّ الإرهاب جزء أصيل وكامن في الهوية الصهيونية، والحرب جزء من التصور الأميركي الإسرائيلي للحل، وأنّ الهدف ليس فقط تصفية القضية الفلسطينية بل إطفاء نور المقاومة واستئصال بيئتها حتى لا تقوم لها بعد ذلك قائمة، وأنّ حرق لبنان هو جزء من عملية أميركية إسرائيلية مطلوبة للتفاوض على صيغته الجديدة في الحكم والوظيفة، فإن بدأنا من هذه النقطة، عندئذ سنجد أنّ قرار السيد الشهيد كان واجباً إسلامياً إنسانياً أخلاقياً لا ينطلق من اندفاعة عاطفية ولا من انفعال نفساني.
إنّ شعار لبنان بعد غزة الذي ارتفع علناً غداة عملية «طوفان الأقصى» يؤكد أنّ النخبة المجرمة في كيان العدو تبغي العدوان على لبنان حتى لو لم تُطلق رصاصة واحدة منه، وتريد تعويض تراجعها العسكري وفشلها في تحقيق أهداف الحرب على غزة بالقفز إلى الأمام وإشعال النار، ولذا هي لا بد أن تصطدم مع المقاومة ومع كل القوى المناهضة لها، ولا ننسى موقف أميركا الأساسي الممالئ لإسرائيل والذي يريد انهيار لبنان وتفكيكه وإعادة بنائه من تحت الرماد عبر تقليص حجم حزب الله في المعادلة السياسية والعسكرية كما عبّر أكثر من مسؤول أميركي علناً منذ ما بعد حرب تموز 2006 ما يعني أنّ العدوان على لبنان والمقاومة كان لا بد أن ينفجر في زمان ما وفقاً لرؤية أميركية-إسرائيلية تسعى إلى تغيير خريطة «الشرق الأوسط» لتأمين مصالح الغرب المستكبر لقرن قادم.
لقد غلبت صورة النصر في وعي الجماهير على النصر الذي تسبقه كل هذه الأحداث الأليمة. لقد عاشت الجماهير داخل هذا «الغيتو المعرفي الحالم» الذي أفرزته خريطة المواقف الحماسية للسيد نصرالله
وأعتقد أنّ الأسلوب الأمثل للتعامل مع هذا الوضع هو ما فعله السيد الشهيد، يؤكد عبره على وطنيّته وانتمائه الإسلامي، بأن يبدأ بردع العدو وإظهار القوة والبأس ليخاف العدو من الحرب فيرتدع عن ممارسة الإجرام وليتوقف عند حدود موازين القوى التي تعني أنّ أي تدمير هنا سيقابله تدمير هناك، وأنّ أي ألم هنا سيكون له مماثل هناك، وأنّ النار بالنار والعدوان بالمقاومة.
وهل لنا أن نلاحظ أنّ هذه هي المرة الأولى التي ينخرط فيها حزب الله بهذه الدرجة، فقد حصل سابقاً أن تعرّضت غزة لاعتداءات كثيرة كعدوان 2008 الذي سمّته إسرائيل «عملية الرصاص المصبوب»، وعدوان 2012 الذي كان باسم «عمود السحاب»، وفي عام 2014 شنت إسرائيل عدواناً جديداً عُرف بـ«الجرف الصامد» استمر 51 يوماً، وكذلك عام 2021 بعدوان سمّته «حارس الأسوار»، ثم «الفجر الصادق» عام 2022، قبل أن تبدأ بعدوانها الأضخم «السيوف الحديدية» بعد عملية «طوفان الأقصى» فجر السابع من أكتوبر من عام 2023. إذاً، لم يكن حزب الله، وبناء على الظروف السابقة، في وارد تغيير إستراتيجيته القتالية لولا أنّ ضخامة التهديدات وصلت إلى حدّ ما عاد في الإمكان الرد عليها إلا بالانخراط فيها على قاعدة «إن هبتَ أمراً فقع فيه، فإنّ شدة توقّيه أعظم مما تخاف منه»، ومتجنباً، من جهة أخرى، الوقوع في فخ «أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض»!
السؤال الثاني: أليس استشهاد القادة الكبار في المقاومة وآخرهم الأمين العام لحزب الله سببه الاستخفاف بقدرات العدو وإمكاناته الاستخبارية والتقنية؟ ألم يكن فائض القوة هو التعبير العميق عن هذا الخلل الفاضح الذي وضع المقاومة وبيئتها في صدمة قوية؟
الجواب: لا بدّ من تناول الأمر بطريقة عقلانية وفي ظروفه الصراعية التاريخية. ولنعلم جميعاً أنّ الحرب التي يشنّها العدو هي حرب لا أخلاقية ولا عقلانية ولا تستند إلى أي سقوف قانونية أو قيمية. ولنقل أيضاً إنّ الموت في مواجهة العدو نتيجة طبيعية يجب فهمها في هذا الإطار. أمّا التصدي لسؤال الاستخفاف أو أنّ هناك علاقة بينه وفائض القوة، فهذا ما يتطلب فعلاً دراسة نفسيّة سلوكية تفسّر هذه الحالة عند قياديين محددين أو عند جمهور المقاومة بأسره ولا أدّعي أني أملك المقدرة على فعل ذلك. ولكن هناك مَن ينسب الخروقات التي حصلت ومنها تفجير «البيجرات» إلى ظاهرة تزايد جسم الحزب وتنامي أعضائه بعد عام 2006 إذ كانت الضرورة تجنيد أكبر عدد من المقاتلين استعداداً للحرب القادمة التي افترضت قيادة الحزب أنّها ستكون كبيرة وقاسية وتحتاج إلى أعداد وفيرة، ومن المتوقع أمام هذا الوضع أن تنشأ مشكلات أخلاقية وأمنية متعددة. وقد جاءت الحرب في سوريا وانخراط الحزب في ميادينها لتؤكد الحاجة إلى هذه الطفرة البشرية ولكنّها في الوقت نفسه لتفاقم من العبء على قيادة المقاومة لتنظيم الوافدين الجدد وتأهيلهم دينياً وأمنياً واستيعاب مشكلاتهم بمجموعة من الإجراءات والتشريعات والضوابط القانونية. لم يكن الجيل الجديد الذي تم دمجه في وحدات الحزب الأمنية والعسكرية يتمتع كله بالمواصفات التي كان يتمتع بها الجيل الأول على مستوى العادات الاجتماعية. ثمة فوارق كانت واضحة لمن كان يتابع ملفات إدخال هذه الأعداد المتزايدة إلى جسم الحزب، إلى جانب ظهور عناصر لم يكن من شأنها أن تكون داخل مؤسساته. ولكن لنقل بصراحة، إنّه لا توجد معطيات موثوقة تؤكد أنّ اغتيال القادة كان سببه تفلّت أخلاقي وتهاون أمني أو بسبب وجود هذه العناصر القليلة غير المنضبطة، وإن سادت شائعات هدفها خلق جو من عدم اليقين والأمن والثقة لهدم واحدة من أهم سمات الحزب والمقاومة وهو التماسك الناجم عن التمسّك بالمبادئ الدينية وتزايد معدلات السرّية بسبب المخاطر التي يواجهها على المستويين الداخلي والخارجي. ربما الذي حصل. كان خرقاً تقنياً وليس بشرياً، وهذا ما يميل إليه بعض الخبراء العسكريين الذين التقيتُ بهم، وربما كان نتيجة مركّب من الأسباب، وهذا ما أرجحه، بمعنى أنّ القدرة الاستخبارية التقنية والبشرية لدى العدو وبمساعدة أجهزة استخبارات غربية وعربية بلغ ذروته في هذه العمليات الصادمة، تمكّن عبرها أن يتسرب إلى بعض نقاط ضعف الحزب الأمنية والبشرية وينفذ إلى بعض الثغرات غير المنظورة لجهاز الحزب الأمني والعسكري والاجتماعي لتشكل جميعها المادة المطلوبة لتنفيذ الخطة التي كان المتوقع منها «قطع رأس الأفعى» كما هي أدبيات الصهاينة، أو انهيار الحزب وتفكك منظوماته القيادية والقتالية بشكل دراماتيكي. ورغم ما أثارته «المعلومات الذهبية» من قصص بعضها من نسج الخيال، أي ليس لها أساس في الواقع، وما أحدثته الضربات المؤلمة التي تعرّض لها الحزب مع بداية الحرب على لبنان من هواجس ومخاوف في أوساط البيئة المؤيدة للمقاومة، إلا أنّ العدو لم يستطع إحداث تحولات جوهرية في معادلات الصراع ومساره، وظلت العلاقة الصراعية قائمة على قاعدة: «الحرب سجال، فيوم لنا من عدونا ويوم لعدونا منا»، وهذا ما صحح كل الأوضاع المضطربة وعالج كل النفوس القلقة داخل مجتمع المقاومة، ليكمل المجتمع مساره النضالي متوازناً إلى حد كبير ومفعماً بالأمل والنصر ولو كانت الأعباء ثقيلة والخسارات فادحة، فالمقاومة هي لبّ الحياة والإرادة الحقيقية لمن أراد البقاء، ولو كان العدو المتفوق في هذه الجولة القتالية جزءاً من التشكيل الحضاري الغربي الكبير بكل إمكاناته التقنية وطموحاته التوسعية وآلياته الاستخبارية المتقدمة التي يظن البعض أنّه لا يهزم ولا ينهار. إنّ الإحساس بفائض القوة لدى قياديين في الميدانين الأمني والعسكري (وأنا لا أملك معطيات دقيقة وحقيقية حوله) ربما يكون من عناصر الصورة السلبية التي يروّج لها البعض باعتبارها هي الأساس في وصول العدو إلى الأمين العام وتمكّنه من قتل أبرز القادة في الصف الأول، وربما يكون ما أشاعه العدو عن قدرات حزب الله الكبيرة خلال السنوات الماضية، قد خدم الهدف الذي أراده، ليجعل الحزب في حالة الرضى عن النفس والطمأنينة للقدرات، والإعجاب، بل الاغترار، بالإمكانات المادية والبشرية لديه، وهذا ما يؤدي إلى التراخي والاستخفاف بقدرات العدو وقدرته على الوصول إلى ما كان يعتبر من الأقداس الأمنية.
ربما وربما… ما لا أستطيع الجزم بوقوعه على النحو الذي يجري على ألسنة الناس وبعض وسائل الإعلام، ولكن المقاومين هم مسلمون يعرفون أنّ الإسلام لم يترك الابتلاءات مهما اشتدت والمحن مهما تعاظمت من دون قواعد للعلاج، فوفقاً للمفاهيم الإسلامية فإنّ كل ما وقع هو بعين الله وهو خيرٌ محض لأنّ فيه الرحمة المخفية والحكمة الكامنة وإن كان قد ظهر على نحو مؤلم وصادم وغير متوقع، ما يستدعي من المسلم التواضع والاعتبار ومواصلة التعلّم اعترافاً بالتقصير وصولاً إلى الاستغفار والتوبة.
السؤال الثالث: هل ما وُعدنا به من مفاجآت ومعادلات ردعيّة كان مضخّماً وأنّ العدو لم يكن في الواقع واقفاً على «إجر ونص» بل كان متحفزاً بأقصى قوته لضرب بنية حزب الله وتدمير كل مقدرات بيئته الاقتصادية والعمرانية؟ هل كانت كل التقديرات خطأ في ما يتعلق باستعدادات العدو ونواياه وأننا كنا نحمل عنه صورة الخائف المتردد فيما هو في الواقع كان يخفي قدراته وينتظر تفعيلها في لحظة هو يعيّنها؟
الجواب: لا بدّ من القول إنّ كل شيء كان يسير بانتظام وكما هو مخطط له إلى ما قبل ضربة «البيجرات». صحيح أنّ المدة الأولى لبدء معركة الإسناد حصلت أخطاء بشرية راح جرّاءها عدد كبير من الشهداء، ولكن القيادة الميدانية كانت لديها قدرة سريعة على التأقلم والتعلّم وإجراء التقييمات والمراجعات المطلوبة من دون مكابرة، لمعرفتها وخبرتها الطويلة بالعدو. كما أنّ القيادة كانت تعرف منذ البداية أنها تقاتل عدواً وحشاً شرساً صعباً لا يحتكم لمنظومة قيمية وأنّه يقاتل خارج المعايير الإنسانية والأخلاقية والحقوقية، وأنّها كانت تتحسب لحرب يريدها العدو وسط الناس المدنيين ولا تستبعد دُور سكنهم وأماكن عملهم وموارد رزقهم. ولكن ربما أنّ الذي جرى خلال السنين الماضية هو التركيز أكثر على صورة النصر، لا النصر الذي تسبقه المعاناة المريرة والتضحيات الجسيمة. فظن الناس أنّ الفوز على العدو سيكون سهلاً بدخول قوات الرضوان الجليل ثم إلى القدس ورفع الراية الصفراء على مسجدها الأقصى. لو عدنا إلى جمهور المقاومة اليوم وسألناه عن تصوره للحرب والسيناريو الذي وضعه في مخيلته لن يكون إلا ما قلناه. لم يكن هناك «بجع أسود» ولا أحداث غير متوقعة ولا عيوب في التصورات والتوقعات والخيال. كانت تفاصيل الحرب مما يمكن التنبؤ بها. إن ضربوا الضاحية سيكون السيناريو التالي الذي يدمر حيفا، وإن اغتالوا قائداً سيكون ردنا هو التالي، وإن دخل جندي الأراضي اللبنانية سيكون مصيره القتل فوراً، كذلك سنرد في البحر والجو بطريقة غير مسبوقة، ستكون لدينا مفاجآت لا نهائية، وأن خسائرنا البشرية ستكون قليلة والتدمير محدوداً، والحرب سريعة خاطفة. ولو سألتَ أحداً من الذين هُجّروا إن كنتَ تتوقع التهجير لأجابك: لا. حتى التهجير لم يكن في بال أحد، بل كل ما يتذكره من خطابات السيد الشهيد الخريطة وهو يضع إصبعه على بعض النقاط التي ستطالها صواريخ المقاومة، والمقاطع الصوتية الحماسيّة التي لها علاقة بمعادلات الردع وقواعد الاشتباك والتي تترك أثراً نفسياً هائلاً على المتلقي وتزوده بطاقة أسطورية على حسم المعارك خلال دقائق أو ساعات، دون أن يتذكر الشرح الوافي الذي قدمه السيد خلال ثمانية عشر عاماً وتحديداً في مناسبات عاشوراء عن الصعوبات والتحديات والمخاطر وقوة العدو ومكره وخدعه وعدم الاستهانة بقدراته والتي يتم اختزالها وأحياناً محوها من الذاكرة لتكون النتيجة هي الوقوع في فخ الاستنتاجات الخطأ. القدرة على توقع الحرب على هذا النحو القاسي حيث يقتل العدو فيها الأمين العام وقادة الصف الأول ثم يهجّر فيها أكثر من مليون شخص دفعة واحدة، كانت شبه منعدمة. ولذلك حكَمَ جمهور المقاومة على أنّ ما حصل كارثة بكل المقاييس، وأحداث غير قابلة للاستيعاب والفهم ولم تكن واردة البتة في قاموس توقعاته. ولكن يسأل آخرون، هل المشكلة في توقعات الجمهور والمعطيات التي قُدمت له والطريقة التي يتلقى بها الأحداث أم في القادة ووقوعهم في سحر القوة ووهم التخطيط والمعرفة الكلية وعدم إلمامهم الكافي بتقدير ما لدى العدو من قدرات ومفاجآت والذي أصاب المقاومة والبيئة بضرر بالغ؟
لم يكن أحد من قياديي المقاومة يعيش وهماً بأنّ المقاومة محصّنة من الخروقات ومعصومة من الأخطاء. ولم يقل أحد من قادة المقاومة إنّ النصر سيكون سهلاً، أو إنّ الحرب ستكون أياماً ولياليَ قليلة
ولا شك أنّ الإجابة صعبة ولا يمكن الحكم بطريقة سطحية وغير دقيقة عما جرى، وأنّ النكسات التي وقعت كانت غائبة عن التنبؤ أو بعيدة عن أذهان متخذي القرار، أو أنّ السيناريوهات السيئة لم تكن مدروسة بكل مخاطرها لقصور في التفكير أو لتقصير في الأداء أو الفشل في الخيال والتنبؤ بحجم الرد الإسرائيلي وعنفه وإمكانية تطوره على هذا النحو المرعب. لقد كان السيد الشهيد في خطاباته يركز على الاحتمالات المستبعدة، وكيف يمكن مواجهتها والحد من آثارها السلبية، ولكن لا يمكن لأحد أن يطلب منه توقع غير المتوقع لأنّ ذلك شبه مستحيل رغم قوة بصيرته وفراسته المدهشة، ولا أحد في مقدوره أن يكون محيطاً علماً بكل شيء لأنّه يدخل في عِداد الغيب. نحن على ثقة أنّ السيد الشهيد ومعه كل قيادات المقاومة بذلوا كل وسعهم العقلي وعملوا بكل طاقاتهم لتلافي الأخطاء التي حصلت خلال عدوان تموز 2006، والاجتهاد في ابتداع حلول لمواجهة تحديات المرحلة الحالية، والاستعداد بكل قوة ممكنة لتحقيق أهداف المقاومة ومنع أهداف العدو. لم يكن أحد من قياديي المقاومة يعيش وهماً بأنّ المقاومة محصّنة من الخروقات ومعصومة من الأخطاء. ولم يقل أحد من قادة المقاومة إنّ النصر سيكون سهلاً، أو إنّ الحرب ستكون أياماً وليالي قليلة. ولكن كما قلتُ قبل سطور لقد غلبت صورة النصر في وعي الجماهير على النصر الذي تسبقه كل هذه الأحداث الأليمة. لقد عاشت الجماهير داخل هذا «الغيتو المعرفي الحالم» الذي أفرزته خريطة المواقف الحماسية للسيد نصرالله والذي حدد مجال رؤيتها وتصورها عن الحرب هذه والتي كان لها موجباتها في إطار الردع والحرب النفسية والحركة التعبوية وغير ذلك من الضرورات. إلا أنّ علاج ذلك الآن يمكن أن نجده في كلمات السيد الشهيد نفسه والتركيز عليها مجدداً من دون اختزال، وكلها تتمحور حول التضحيات والصبر وبذل الأنفس. ولقد أحسنت بعض وسائل إعلام المقاومة والناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي بإعادة ضخّ هذه المادة المعرفية عن الحوادث العصيبة والابتلاءات التي تكون رحمة وخيراً والتي تنبع في العمق من لطف الله وعنايته الخاصة بعباده المخلصين المجاهدين، وكيف أنّ على الإنسان أن يقف في مقابل الصعاب كالجبل الصلب الراسخ متوجهاً إلى الله ليمنح نفسه السكينة ويزيل عنها الاضطراب والقلق. إنّ مثل هذا الاستحضار لهذه الكلمات من شأنه أن يحمي الجماهير ويحفظها من التزلزل والشك والضيق. وبالفعل، إنْ التزمت هذه الجماهير بالعين الصافية والغنية والزكية للسيد الشهيد لتغيرت رؤيتها للواقع كثيراً ولرأت شيئاً غير الوقائع الموجعة، أي لتعدّل نموذجها الإدراكي من كونه نموذجاً يقوم على النصر السهل إلى نموذج يقوم على حقيقة هذه المعركة التاريخية والحضارية والعسكرية الكبيرة وظروفها ومسؤولياتها الجسيمة، أي إلى هذا النموذج المركّب الذي يحاول أن يصل بالجماهير إلى الواقع في كل جوانبه التي يختلط فيها الألم بالأمل والتعب بالفوز والمعاناة بالنصر.
كما أننا ولا شك بحاجة إلى وقت طويل حتى تظهر ويتوضّح أثر ما كانت تعرفه المقاومة عن العدو وما لا تعرفه. صحيح أنّه كانت هناك أمور معروفة عنه ولكن كانت هناك أمور غير معروفة، تماماً كحال العدو الذي يعرف أشياء عن المقاومة ولكنّه في الوقت ذاته يجهل عنها أشياء وأشياء. فليس صحيحاً القول إنّ إسرائيل اخترقت الحزب ووضعته في نقطة الخيارات الصعبة إمّا الاستسلام وإمّا القتل، فالصورة ليست على هذا النحو من المأساوية، ولطالما كان يقول السيد الشهيد إنّ الإخوة في الميدان كانوا يملكون صورة أوضح من الإخوة الذين يقيّمون الأوضاع من بعيد، فقد كان أهل الميدان أكثر اطمئناناً وهم على تماس مع العدو من البيروقراطيين الحزبيين الذي يجلسون على مكاتبهم بعيداً عنه. وليس صحيحاً أنّ مقدرات الحزب قد ضُربت أو أصابها الشلل بعد استشهاد عدد من القادة أو بعد ضربة «البيجرات»، والدليل هذا الارتقاء النوعي والكمي في عدد العمليات والاستهدافات وفي المديات التي طالت منشآت عسكرية وحيوية داخل كيان العدو وأصابت الاقتصاد الإسرائيلي بتفسّخات كبيرة، وأدّت إلى نزوح مئات الآلاف واضطرارهم إلى العيش في الملاجئ أو في أماكن بعيدة محصّنة، وهذا يُظهر لنا حدود عدونا وأنّه ليس قوة لا تقهر، وأنّه يجب ألّا تخدعنا هذه القوة الضخمة من أن نؤمن بأنّ آلة القتل المتوحشة يمكنها أن تصمد في مواجهة مسار التاريخ الذي يصنعه الإيمان والنضال والمقاومة المستمرة. ثم إنّ القول إنّ السيد الشهيد أو قادة المقاومة كانوا يقدمون للرأي العام وجمهور المقاومة معطيات مضخّمة عن السلاح الذي بحوزة المقاومة، فهذا مما لا يجب أن يقع به أحد من بيئة المقاومة، فإذا كان العدو يقول عن السيد الشهيد «ما أظلت السماء وما أقلّت العرب أصدق لهجة من أبي هادي»، فكيف يمكن أن يتسرب الشك إلى أحد عاش دهراً مع كلمات السيد ووعوده الصادقة؟ وكذلك بالنسبة إلى القادة الذين امتدحهم السيد في مناسبات كثيرة ليؤكد مزاياهم الإيمانية ومناقبيتهم ومهنيتهم العالية التي لا تسمح لمثل هذه الشكوك أن تجد لها طريقاً للعبث بذهن أحد وإلا اتسم صاحبها بالشطط وسوء الظن والإثم.
أما بشأن المعادلات التي كان للسيد الشهيد دور في صياغتها، فكانت حقيقية بالكامل وتُرجمت تهيّباً شديداً من الطرف الإسرائيلي على كسرها، ولطالما كانت الأوساط العسكرية الإسرائيلية تتحدث عن ضرورة استبعاد المقاربة العسكرية والبحث عن بدائل سياسية لتهدئة النزاع. وشكّل هذا الإدراك ضابطة حاكمة على العقل الإسرائيلي إلى أن بدأ العدوان على غزة وكانت نقطة انطلاق لحرب نتنياهو الهمجية. فقد كان العدو يدرك معادلة الكلفة والجدوى وأنّ ثمة ثمناً لا بدّ أن يُدفع بعد أي خطأ في الحسابات، وهو يفهم تماماً مسألة الثمن هذه، يفهمها بكفاءة عالية.
خاتمة
إنّ كل حرب لها قواعدها وخواصها التي تحدد إطارها والتداعيات الناتجة عنها والموضوعات الأساسية الكامنة فيها والأسئلة التي تدور حولها وما يُقال فيها ويُسكت عنها. والحرب بناء مركب يحوي داخله عدداً من الإستراتيجيات والقضايا والأفكار والأهداف والمرجعيات التي تعبّر عن رؤى مَن ينخرط فيها، ولكن للحق نقول، لا يزال الوقت مبكراً حتى تُعرف آثار الحرب الحالية وتحولاتها ويُجاب عن الأسئلة الحرجة في وقائعها.
فهذه الحرب رغم كل الأوجاع والخسائر المادية والبشرية التي أصابت لبنان ومجتمع المقاومة على وجه التحديد، وأعظمها اغتيال الشهيد الأممي الأقدس السيد حسن نصر الله، يواجهها المقاومون بروح معنوية عالية وبإرادة لا تخضع مقابل جبهة الباطل ولا تنحرف نحو الاستسلام. بل نرى المؤمنين المخلصين الثابتين الصابرين كالنجوم المضيئة خلف قائدهم الشهيد وكأنّه ما زال فيهم وأمامهم يقود مسيرة نضالهم المرير، لا ينالهم الضعف ولا الاستكانة (فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعُفُوا وما استكانوا والله يحب الصابرين) متجهين نحو الله، يخاطبونه طالبين منه المغفرة (وما كان قولَهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا)، لأنهم ليسوا معصومين من الوقوع في الأخطاء، بل هم في معرض الزلات والعثرات والتفريط والتقصير، داعين الله إلى مساعدتهم في هذا الطريق الصعب بكل منحدراته ومرتفعاته وأهواله ومخاطره، يسألونه أن يغض النظر عن تفريطهم أو إفراطهم، آملين منه تحقيق النصر على عدو بالغ في فساده وطغيانه (وثبّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين).
إنّ هؤلاء المجاهدين الذين يقاتلون بكل بسالة هذه الأيام، يهرعون إلى ترميم كل قدرة لديهم، ويوحّدون كل تفرّق في صفوفهم، وينظّمون ما تشتت من خطوط دفاعهم، يستمعون إلى كلمات سيدهم الآسرة والمحفزة بحقهم فيزدادون يقيناً بما مضى عليه سيدهم، لأنّه يمثل أفضل قدوة لهم في السراء والضراء وفي الحياة وفي الممات. فقائدهم ليس كمثله قائد في التضحية والجهاد، وحزبهم ليس كمثله حزب في اختياراته التاريخية دفاعاً عن المظلومين على طريق القدس!