المقاومة والدولة (الوطنية) العربية
مازن النجار – وما يسطرون|
في سياق عام كامل من التصدي لعدوانية الكيان الصهيوني إسناداً لجبهة المقاومة في غزة ثم استشهاد الأمين العام لحزب الله، سماحة السيد حسن نصر الله، وعدد من القادة المجاهدين الأبرار، رضوان الله عليهم، تناولت أوساط إعلامية وبحثية، إقليمية ودولية، بالتحليل والدراسة ظاهرة «حزب الله» والمقاومة الإسلامية في لبنان، ودورها في تشكيل محور المقاومة والتصدي للمشروع الصهيوني والإمبريالية، وخلص البعض إلى أن «حزب الله» في لبنان هو أكبر «الفواعل من غير الدول» وأقواها في العالم المعاصر.
وفي سياق تحولات إقليمية ناجمة عن ملحمة «طوفان الأقصى»، أثبتت الأحداث قدرة هؤلاء «الفواعل من غير الدول»، حزب الله في لبنان و«أنصار الله» في اليمن و«حماس» و«الجهاد الإسلامي» في فلسطين وفصائل المقاومة الإسلامية في العراق، على التصدي للعدوانية الصهيونية وحليفتها الإمبريالية، وفرضت معادلات ردع إستراتيجي، وطوّرت قدرات وفعالية عبر المتاح لها من موارد وسيطرة جزئية على إقليمها، ولو كان ذلك تحت الحصار المشدد.
يرتبط ذلك بتراجع الدولة (الوطنية) العربية وتغوّلها على شعوب الأمة في بلاد هذه الحركات، أو غيابها فعلياً كما في قطاع غزة، رغم اضطلاع السلطة (الفلسطينية) بقمع جماهير المقاومة بالضفة الغربية المحتلة، ونجاحها في إحباط مئات من عمليات المقاومة نيابة عن الاحتلال الذي لا يتوانى عن خنق هذه السلطة وحصارها وإفقارها وتهميشها.
يُنبِئ هذا التحول المهم بأن تفكيك الكيان الصهيوني وتحرير فلسطين سيترافقان غالباً مع اضمحلال الدول (الوطنية) عربياً، بعد قرن من الهزائم والقمع والفساد وإذلال الأمة.
وقد بلغ الحل الإمبريالي الغربي لـ«المسألة الشرقية» وعدوانه على العالم العربي والإسلامي الذروة بإقامة المشروع الصهيوني الاستيطاني الإمبريالي الإحلالي في القلب منه ليتعهد ويكرّس ويستديم هذا الحل الإمبريالي، وبإقامة الدول (الوطنية) العربية على أنقاض الأمة، وعلى أساس واقع التجزئة الذي فرضته وكرسته اتفاقية سايكس-بيكو البريطانية الفرنسية وامتداداتها.
ورغم إقامة جامعة الدول العربية و«نظام إقليمي عربي» بزعمهم، بقيت الفرضيات الأساسية لقيام هذه الدول العربية فاعلة: الاستقلال الشكلي، التبعية الكاملة للإمبريالية العالمية، إنكار وجود الأمة ووحدتها، اختراع أيديولوجيات وهمية وهويات قُطرية عبثية، العداء الصريح للشقيق العربي والولاء الكامل لدول الاستعمار، والانتماء لحضارات ما قبل العروبة والإسلام وإحياء رموزها الوثنية وترذيل العروبة والإسلام!
والأخطر هو استدامة سيطرة النخب العشائرية والأمنية والعسكرية والدولة القمعية العميقة على الدولة والإعلام والمؤسسات والتشريع والقضاء ومصادرة الفضاء العام. وقد وصف المفكر الراحل جمال حمدان دور الجيوش في الدول (الوطنية) العربية الناشئة، بعد الحربين العالميتين وقيام الكيان الصهيوني بأنه: السيطرة والقمع في الداخل والتفاوض والتواطؤ مع الخارج!
يضمن هذا الواقع الراهن إجهاض جهود الاستقلال والتوحيد واستنهاض الأمة، وعرقلة التنمية، واستدامة إخضاع المنطقة وتبعيتها، واستنفاد مواردها أمام التهديد الصهيوني بلا جدوى، وإبقاء الأمة محرومة من الحرية والنهوض والتمكين والعدل الاجتماعي وحق الاختيار وتقرير المصير، وتأبيد الفساد المتغلغل والرأسمالية الطفيلية ومصالح الأعداء.
أثبتت حروب الكيان الصهيوني على الدول العربية عجز الأنظمة الحاكمة والجيوش الرسمية عن التصدي لتوسعه وعدوانيته، بل عجزت عن الاحتفاظ بأرضها، ناهيك بتحرير فلسطين السليبة وإعادة الحقوق إلى أهلها. وتولت هذه الأنظمة قمع محاولات حشد جماهير الأمة وتعبئتها سياسياً واجتماعياً، وفككت منظومات المقاومة التاريخية الكامنة في الأمة في مجالات الاجتماع والعمران، وحظرت التنظيمات السياسية المعبرة عن روح الأمة، وأطلقت عنان عدائها للتيار الأساسي للأمة والحركة الوطنية المناهضة للاستعمار.
في أواخر القرن الماضي، كان باري روبين، الأكاديمي الأميركي اليهودي الصهيوني، يزعم أن الكيان الصهيوني ينتصر دائماً لكن العرب لا يعترفون بالهزيمة، كما فعلت ألمانيا واليابان بنهاية الحرب العالمية الثانية! وقد فاته أن الأمة، وليست الأنظمة والنخب الحاكمة، هي التي لا تعترف بالهزيمة لأنها لم تُهزم قط ولم يتسنَّ لها خوض معارك التحرر المعاصرة إلا نادراً.
وعبّر عن ذلك منذ نصف قرن المفكر الراحل، هشام شرابي، أستاذ تاريخ الفكر الأوروبي بجامعة جورجتاون، في افتتاحية كتابه «ست مقدمات لدراسة المجتمع العربي» عندما قال إن كل مواطن في العالم يتوقع أن يكون له دور في الدفاع عن وطنه إلا المواطن العربي فهو محظور عليه ذلك. وقد أكد المفكر والمؤرخ الراحل، طارق البشري، غير مرة أن الجيوش العربية الرسمية غير فاعلة أو مؤهلة لخوض الصراع مع الكيان الصهيوني وأن المقاومة الشعبية أكثر كفاءة في مقاومة هذا الكيان والتصدي له.
فكان لا مناص من أن تتولى الأمة أمورها وتسترد ولايتها على نفسها وتواجه التحديات الوجودية والإمبريالية والإستراتيجية والحضارية، عبر حركات النهوض والمقاومة وحاضناتها الاجتماعية، واستدراك أوجه القصور في تجربة الدول القطرية، بل هي نقيض هذه التجربة عندما يتعلق الأمر بالأمة وهويتها ووحدتها وتجربتها الحضارية الممتدة، وانفتاحها الواسع على الجماهير ومنظومات المقاومة الكامنة فيها ومخزونها من الوعي بذاتها وخبراتها الفاعلة وبوصلتها الدالة دائماً على الأولويات الحقيقية.
ولم يكن مصادفة أن يتعرّض الكيان الصهيوني، في حرب تموز 2006، لحلقة خطيرة وحرجة من انحطاط إستراتيجي هدد موقعه وأهميته في بنية الإمبريالية الغربية ودوره في خدمتها، إذ بلغت المقاومة اللبنانية رشدها وحققت نضجاً وأداء عالياً فاجأ العدو والصديق، وأذاق الجيش الصهيوني الويلات ودفن قدرة الردع الصهيوني الإستراتيجي تحت تراب الجنوب اللبناني الأبي.