يحيى السنوار: شهادة أمّة
بشار اللقيس – وما يسطرون|
لا أعرف الكثير عن يحيى السنوار وحياته الشخصية. أذكر أن أول صورة لفتت انتباهي له، تلك التي التقطها في نهاية معركة «سيف القدس» عام 2021. كان السنوار جالساً فيها على ما تبقى من أثاث مكتبه. ابتسامة السنوار تلك كانت لافتة. كملك منتصر يتحدّى جبروت إسرائيل. صورة السنوار تلك كانت مادة لـ«يديعوت أحرونوت». نوريت يوهانان، مراسلة الصحيفة، وصفت الصورة تلك بالهدية التي قهر بها السنوار إسرائيل. مذاك صرت أسأل المعارف والأصحاب في غزة عنه. كل من التقاه، أو عرفه، يقول فيه – أول ما يقول –: «كان كأحدنا». يشبه السنوار غزة في ملامح وجهه ويتشارك وأهل غزة في طيبته. أعرف أن مثل هذا الكلام سيبدو شاعرياً، لكني أعرف أن هذا الكلام هو أول ما يتبادر إلى ذهن كل من عاشره من أصدقائه وعارفيه.
السنوار كأحدنا، لم يرث بيتاً ولا حساباً بنكياً ولا كرسياً، ولم يورّث بيتاً ولا حساباً بنكياً ولا كرسياً لواحد من أبناء عائلته. السنوار كأحدنا، هو لا يشبه الملوك ولا الرؤساء العرب المهووسين حد الخبل بتوريث أبنائهم (ولو كان أبناؤهم «مساطيل»). السنوار كأحدنا، لا يملك ميراثاً يستبقيه فينا غير سيرة الدم فوق الحديد. وميراث الدم ذاك، هو أعظم ما في الرجل من حضور.
وللسنوار ما يُحسب له. يُحسب للرجل استعادته الحركة الإسلامية من استلاب مزدوج وقعت فيه طوال عقود. استلابها للغرب، عبر إعادة استِنبات مفاهيمه وأسلمتها دون أي اجتهاد أو قيمة معرفية مضافة، وذاك ضرب من «استقالة العقل» كان قد جنح إليه كثير من الحركات الإسلامية (حركتا «النهضة» والدعوة هما المثالان الأبرزان في هذا السياق). واستلاب الانئسار إلى الماضي والتسلف. وهو ما وقعت به غالبية الحركات الجهادية في العقدين الأخيرين، في استعادة «هستيرية» لفتنة بغداد (فتنة الكرخ في القرن السابع الهجري) التي أسست لقسمة «نواصب وروافض»، والتي كانت ترياق أميركا والغرب في بقاء هيمنته على منطقتنا. فأخرج السنوار حركة حماس من مثقلات التاريخ الطائفي واستلاباته، ومن وطأة الراهن المتمثل في سطوة الغرب وهيمنته. فأعاد حماس إلى مسرح الواقع الوطني.
عمل السنوار منذ خروجه من السجن عام 2011 (في ما يُعرف بصفقة شاليط) على تجذير بنية حماس الوطنية، وعلى مد يد العون والتعاون مع كل الفصائل الفلسطينية، مؤكداً أولوية الشأن الوطني، وأولوية المسألة الاجتماعية في الشأن الوطني. فلم يألُ جهداً عن التواصل مع الشباب الفلسطينيين من كل الأحزاب والقوى، ولم يوفر أي إمكانية لتقديم النموذج في الحكم والإدارة والثورة. فلا ثورة ولا مقاومة متخاصمتَين مع مجتمعهما، ولا نجاح لحركة مقاومة دون مشروع اجتماعي، يبدأ بالوقوف عند متطلبات الناس واستيعاب اختلافهم، وانتقاداتهم، ولا مشروع للمقاومة يمكن له النجاح دون أن ينتهي بمشروع سياسي ينهض بالمجتمع ككل (لا بحزب ولا بفئة).
ويُحسب للسنوار، أنه أعاد فلسطين إلى مانيفستو العمل الجهادي الإسلامي (الفلسطيني تحديداً) بعد سنوات من التيه في جبال كابُل والشيشان، وفي سهوب السودان، ومرتفعات سبرينيتشا. فلا أولوية تفوق فلسطين، لا بسبب إجرام الإسرائيليين الذي يفوق أي إجرام، فكل احتلال مرفوض وكل ظلم مستنكر، بل لأن فلسطين هي نقطة انعقاد النضال التحرري لعالم الجنوب، مع النضال الحقوقي ثم السياسي لعالم الشمال. وفلسطين بهذا المعنى، نقطة ارتكاز خطابات العدل العالمية أياً تكن مرجعيتها، وأياً تكن وجهتها الأيديولوجية. والسنوار، هو رأس استعادة فلسطين إلى مراح العالم.
شهاد أمّة
في تفسيره للحاكمية الإلهية، يقدم المفكر السوداني أبو القاسم حاج حمد معنى مختلفاً لمفهوم الحاكمية الإلهية عند المسلمين. يعتبر الحاج حمد (على هدي أستاذه محمود محمد طه) أن للحاكمية تدرجات ابتدأت باصطفاء الله للفرد، مع آدم ونوح، اللذين جعل الله تعالى مناط الحاكمية فيهما. ثم صارت الحاكمية منوطة بالعائلة أو الجماعة مع آل إبراهيم وآل عمران، قبل أن تصير الحاكمية حاكمية أمة مع خاتم النبيين رسول الله محمد (ص). يعتبر الحاج حمد أن الحاكمية، ومع ظهور محمد (ص)، صارت مشروع الأمّة إلى العالمين. فالمهمة لم تعد مهمة رجل، أو جماعة مغلقة، بل مهمة أمة تنطلق بمعاني الجهاد والشهادة إلى العالمين. وبغض النظر عن إجماعنا على قول الحاج حمد أو اختلافنا معه، فإن المؤكد أننا كأمة مسلمة، وبعد وفاة رسول الله، قد انتقلنا لحمل أمانة الهداية إلى العالمين. ذاك ما آمن به السنوار وإخوته المجاهدون.
إن فلسطين، اليوم ليست قضية فلسطينية، ولا قضية عربية، ولا قضية جنوبية (خاصة بعالم الجنوب). إنها قضية العالمين فيما سنختاره وسنكون عليه. فإما أن نكون بشراً حافظين لكرامتنا وكرامة نوعنا البشري (بالمعنى الدارويني)، وإما ألا نكون محل هذا الاستحقاق (ولنا أن نختار من عالم الحيوان والجماد ما نشاء أن نكون). السنوار ليس رجلاً، هو أمّة في رجل كجدّه إبراهيم (ع). السنوار كأحدنا، نحن أهل الأرض من العالمين الناشدين نظاماً أكثر عدالة وأقل ظلماً. السنوار كأحدنا. لم يُقتل من أجل كرسي يا أمّة الله بل ذوداً عن كرامة نوعنا البشري. ما أضيق العيش في عالم ليس فيه يحيى السنوار، ما أجمل العيش كأحد منا لا يموت اسمه يحيى السنوار.