من السنوار إلى قيساريا مشاهد تصنع التاريخ وترسم الخرائط

محمد سيف الدين – وما يسطرون|

 خرائط الشرق الأوسط ترتسم الآن قطعة فقطعة، وطلقةً فطلقة، مع كل خطوة لمقاتل، أو غارة لمقاتلة، أو وقع لصاروخٍ سابح عبر الحدود إلى قلب هدفٍ أو عنوان. كل تفصيلٍ قادر على حمل نتيجة مختلفة، وكل حسابٍ له من القلق نصيب ما له من مغريات. الساحة مشتعلة، والعالم يحارب على طريقة الجميع ضد الجميع، ولو تآلفت جماعات وتحالفت قوى. الحرب الآن هي على كل شيء، ومن أجل شيءٍ واحد: حجز مكانة في نظامٍ عالمي جديد، لا يريد أحدٌ أن تبدأ المرحلة النهائية الدموية من تشكلاته من أرضه. البداية، من صورة أيقونية فلسطينية فاقت بمعانيها ما حكاه وجه غيفارا الممدد على خشبة قاتليه قبل عقود.

حارب يحيى السنوار بعمره كاملاً. ولعب أدوار الثورة كلها من صميم قلبه، وليداً مهجّرا في المخيمات، ثم مقاتلاً، فأسيراً، ثم أديب سجون صاغ حكاية بلاده العذبة بالأشواك التي في الطريق يومياً كما بالقرنفل الذي في الذاكرة أبدياً، ثم قائداً عسكرياً، ثم مخططاً استراتيجياً لواحدةٍ من أكبر الضربات الأمنية التي تلقتها إسرائيل في تاريخها، ثم مسؤولاً سياسياً أعلى لحركته، قبل أن يختم من حيث بدأ مقاتلاً أمام المقاتلين، وإلى حيث أراد شهيداً على طريق قضيته التي اختصر حكايتها الكاملة في مسيرته المتكاملة. قاتل الرجل حتى النفس الآخير حتى نفدت ذخيرة، فقاتل جريحاً بعصا، ولو اقترب الجنود منه وفيه رمق أخير لقاتل بالأسنان والأظافر. إنتزع السنوار من الجميع (محبون وكارهون) احتراماً لقلبه وإيمانه بقضية شعبه، وبصدقه في ما كان يقوله عن خوفه من الموت العادي. ماذا بعد؟ وكيف تنظر أميركا إلى الأمر؟

على الرغم من زهو الرسميين الأميركيين باغتيال السنوار، وتعبيرهم عن ذلك بكل الطرق، لا تزال رؤية واشنطن للخروج من هذه الحرب غير يقينية، إذ لا يبدو أي شكلٍ قابل للتحقق من أشكال حكم غزة بعد الحرب معقولاً بالنسبة لهم. لا يعرفون إلى أي مدى ستسمر المقاومة بالتصدي ومنع نتنياهو من تحقيق أهداف الحرب المعلنة، وما إذا كان سيحققها، ولم يتوصلوا بعد إلى سيناريو مؤكد لما يمكن أن يكون على الوضع المقبول في القطاع بالنسبة لهم والإسرائيل. بصورةٍ عامة يرتبط ذلك بفترة من عدم الاتّزان تعيشها الإدارة الأميركية ويمثل أداء بايدن رمزاً لها يختصر الكثير بشكلياته، وهي مع إصرارها على تغطية إسرائيل ومساعدتها لتحقيق نصر، تتخبط في انقساماتٍ داخلية بين اتجاه تقوده هاريس ترى أحداث العالم كلها من منظار الانتخابات فقط، واتجاه متباين يمثّله بلينكن يخدم من دون كلل مجتمع مصالح إسرائيل بصرف النظر عن إدارة الديموقراطيين. وهذا التباين ينعكس في تصريحات خارجية مترددة ومتباينة، وهو يأتي مضافاً إلى الانقسام الديموقراطي-الجمهوري الذي بات ينذر بانفجار مجتمعي داخلي قد يصل حد الاشتباك المسلّح بين أنصار الحزبين. لكن أين ظهر هذا التباين بصورةٍ حادة؟

يوم أمس قال البيت الأبيض إن الضربات الإسرائيلية الكبرى بما في ذلك اغتيال السنوار تمت بمساعدة أميركية. الخارجية الأميركية سارعت في اليوم نفسه لتكذيب إعلان البيت الأبيض، وقالت إن هذا الاغتيال هو عمل إسرائيليٌ صرف، لم تتدخل فيه واشنطن.

قبل ذلك ظهر تناقض وتخبط بين رسائل مبعوث واشنطن إلى لبنان آموس هوكستين وبين مضامين سياسة بلينكن والبنتاغون حيال دعم إسرائيل في حملتها المجنونة على بيروت. لنترك ذلك جانباً، أميركا الآن مؤتمرٌ انتخابي كبير، لكنه مركزٌ يبقى قادراً على تلقي الاتصالات من تل أبيب، وإرسال الأموال والأسلحة والتعبير عن التغطية السياسية لممارسات نتنياهو، التي تنتظر منها واشنطن أن تنهي “الأعمال القذرة” بحدود فراغها من استحقاقها الانتخابي، ثم يأتي وقت العمل السياسي لقطف الثمار. لكن في جميع الأحوال، ماذا تنتظر المنطقة الآن؟

تعيش المنطقة برمّتها الآن ترقباً لمجموعة من المعطيات، منها تأثير اغتيال السنوار على الأداء الميداني والسياسي للمقاومة في غزة ومواقفها من صفقة التبادل، إلى جانب علاقتها مع الدول الوسيطة والحليفة، وتحديداً قطر وإيران ومصر. وانعكاسات ذلك فيما بعد على مفاوضات وقف الحرب.

ولا يبدو اغتيال السنوار مسهّلاً لصفقة الأسرى ووقف الحرب كما أمل سياسيو العالم الغربي الفرحين بالحدث. بل إن الأقرب مع استمرار الجريمة الإسرائيلية -خصوصاً في جباليا الآن- أن الاغتيال سيعقد الأمور على المدى القصير. ومما تتنظره المنطقة، تفاعلات الجبهة اللبنانية مع استعصائها على ألوية الجيش ونخبته الذين زادت إليهم إسرائيل اليوم فرقةً جديدة. بعد امتلاء مستشفيات الشمال بالقتلى والجرحى، الذين تُغيّب الرقابة العسكرية أعدادهم، فتكشفها أعداد المروحيات التي تهرع لانتشالهم من بين نيران مقاتلي المقاومة.

فكيف يمكن لحدثٍ (كما مثلث راميا-عيتا-القوزح أو اللبونة…) أن يشهد مقتل 5 جنود وجرح مثلهم فقط، بينما تستدعي 11 مروحية لانتشالهم (مروحية واحدة كافية لنجدة هذا العدد)؟ سنعود إلى هذه النقطة، لكن أولاً ما الحدث المنتظر أكثر الآن؟

الجميع ينظرون الآن باتجاه إيران. هناك يتوقع أن يضرب الإسرائيليون ضربةً مجهولة الحدود والنوع والتداعيات حتى اللحظة. وحولها تدور مباحثات الدول الكبرى والإقليمية المختلفة. الجميع يتحسب للحظة التالية ويتخوف من وقعها. في هذا السياق، يقول بايدن إنه يعلم بالكيفية والتوقيت اللذين ستضرب بهما إسرائيل إيران. ويرد عباس عراقتشي بأن من يعلم بالكيفية والتوقيت للعدوان سيتحمل النتائج والمسؤولية. ومن الشمال البارد، يقول ألكسندر بوغدانوف إن على إسرائيل أن تمتنع عن مجرد التفكير بضرب المنشآت النووية الإيرانية. ويبدو من المواقف ومن كواليس العلاقات الروسية-الإيرانية أن موسكو وضعت خطاً أحمر أمام فكرة إسقاط طهران من قبل أميركا وإسرائيل. لكن هناك إشارة مهمة في هذا الشأن.

المواقف الروسية تشي بأن التعاون الدفاعي بين موسكو وطهران في إطار اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة التي لاتزال غامضة، سيكون حاضراً بقوة. وليس مستبعداً أن يشمل ذلك مظلةً نوويةً روسية تمنع التفكير بتجاوز الولايات المتحدة، بذريعة الرد الإسرائيلي، الخط الأحمر المرتبط بمجال الأمن القومي الروسي. وهذا الخط الأحمر يتقديري يمتد إلى سوريا، التي يشترك الجيشين الروسي والسوري بعملياتٍ جوية في شمالها، بينما تدور أسئلة كبيرة حول حركة الجيش الإسرائيلي في جنوبنا، ونواياه التي يتوجس منها الجميع بأن يحاول دخول جنوب لبنان انطلاقاً من التوغل أكثر في سوريا. المعطيات المتوفرة والقراءة الجيوسياسية لحركة الأحداث ترجح أن دمشق مشمولة أيضاً بحدود الخطوط الروسية الحمر. وأن إسقاطها ممنوع أيضاً. ماذا عن الجبهة اللبنانية إذاً؟

أما في جنوب لبنان، فالأسئلة بدأت تكبر بسرعة حول أسرار الفشل الإسرائيلي في التقدم واحتلال القرى، ففي حين تروج إسرائيل أن المقاومين هناك يفرون أو يقعون في الأسر، وتنشر صوراً لجنودها في بعض الأماكن، التي ينسحبون منها تالياً، تتلقى مع كل خطوة نحو الداخل ضربةً قاسية تجبرها على التراجع.

لكن التعثر على الحدود ليس الجانب الوحيد المعطل لدى الجيش الغازي، بل إنه لا يبدي جرأةً على استخدام تحريك البحرية قبالة الشواطىء اللبنانية، وربما تكون هذه الجزئية مرتبطة بتوصيات “فينوغراد” بعد حرب 2006. كما بمحاولة منع المقاومة من لحظةٍ دراماتيكية أخرى من نوع “أنظروا إليها تحترق”. زاوية أخرى معطلة من قدرات جيش الاحتلال، وهي محاولات الإنزال أو الإبرار، وهي كانت سمةً رئيسة من سمات حرب 2006. تمنع المقاومة خلال المرحلة الأولى من هذه الحرب (كونها تتوقع أن تكون هذه البداية فقط) من الاستفادة من هذا النوع من الإعمال. إضافةً إلى تعطيل قدرته على الاختراق والسير في العمق نحو الطرقات بين القرى والوديان الإجبارية للتقدم إلى الليطاني. يمكن لإسرائيل الدفع بالمزيد من القوة النارية إلى الجبهة، لكن ذلك سيعني عرض المزيد من الأهداف أمام أعين المدافعين عن الأرض، ما سيؤدي إلى توفير فرصة ضرباتٍ ناجحة لهم قد تؤثر على صورة نتيجة المعركة أمام الدول الكبرى قبل بدء المسار السياسي.

ماذا عن زاوية النظر اللبنانية؟

يخشى اللبنانيون عموماً أن يتسع الدمار في المدن والقرى، وأن توسع إسرائيل دائرة استهدافاتها. ومع بروز نوايا إسرائيلية صريحة حول الدفع باتجاه حربٍ أهلية لبنانية من باب ضغط النزوح وإطالته، وتعميم الدمار، تبرز أهمية التضامن الوطني اللبناني الذي يرفع حتى اللحظة حاجزاً متيناً أمام محاولات الفتنة. وهنا لابد من الإشارة إلى نقطتين: الأولى هي ضرورة تفهّم بُعد الكثير من اللبنانيين عن أجواء هذه الحرب في حياتهم اليومية السابقة، وأن تأثرهم الشديد وخوفهم الآن من المستقبل أمرٌ طبيعيٌ ومحق، وتقدير أن الأغلبية الساحقة منهم أبدت تضامناً وطنياً كبيرا. والثانية هي أن واحدة من أهداف التدمير الكبير للبيوت تهدف إلى زيادة كلفة إعادة الإعمار، واستخدامها لاحقاً للضغط على لبنان الرسمي لتحصيل تنازلاتٍ في تسوية ملف الحدود لاحقاً. وعلى اللبنانيين أن يفكروا (المعارضون للمقاومة قبل المؤيدين) كيف يمنعون اسرائيل من التقدم. لأن مصير لبنان معلق على دماء المقاتلين على الجبهة وبين أيديهم. فالمطروح من أطماع يتجاوز محاولة ضرب البنية العسكرية للمقاومة أو فرض منطقة عازلة، ليصل حد الهيمنة على لبنان سياسياً من خلال الاحتلال العسكري، وبالتالي تفجير تركيبة لبنان ونهايته. لكن أين الأوراق الرابحة؟

بعد عمليات التصدي الأسطورية على الحدود، تحت الأحزمة النارية التي تفتت الحجر، بدأت مرحلة جديدة من إظهار القدرات والأسلحة الجديدة لدى المقاومة. كشفت الأسابيع الأخيرة صواريخ أكثر دقة وتطورًا، وبدأت الإشارات الأولى على استخدام سلاح المقاومة المخيف لسنوات بحسب التصريحات الإسرائيلية، وهو الصواريخ الدقيقة.

لكن شيئاً آخر يبدو شديد الخطورة الآن، ويمكن أن يوسع دائرة تهجير المستوطنين حتى من مدن تقع في عمق فلسطين. إنها المسيرات الانقضاضية المسلحة. قبل أيام استهدفت واحدةٌ منها جنود النخبة “غولاني” في بنيامينا، وأصابتهم إصابةً قاتلة أدّت إلى قتل وجرح العشرات. ومع صباح هذا اليوم، جاء الحدث الكبير باستهداف أبرز هدفٍ في إسرائيل اليوم، وهو مقر إقامة نتنياهو في مدينة قيساريا. الحدث جديدٌ تماماً في سياق الصراع العربي الإسرائيلي. وهي المرة الأولى التي تتمكن فيها حركة مقاومة عربية من تهديد حياة رئيس حكومة احتلال، وخصوصاً أثناء الحرب. فما الدلالة؟

اللافت أولا أن المسيّرات من هذا النوع أصبحت تصل بسهولة إلى مدن العمق، وهي المرة الثالثة في أسبوع واحد فقط التي تتجول فيها المسيرات الجديدة في العمق. ثانياً، وصول هذه المسيرة إلى منزل نتنياهو دليل نشاط استخباري من المستوى العالي، ويؤشر إلى مرحلةٍ جديدة تماماً من المواجهة.

ثالثاً، هذا تقريباً الهدف الأبرز المتوفر حتى الآن، لكنه المستوى الثاني من الأهداف المهمة في سيناريو حرب كبرى، بينما المستوى الأول هو الأهداف الحيوية التي تحدث عنها السيد نصرالله سابقاً، والتي قد يتم استهدافها في حال وصلنا إلى السيناريو الموسع. ووصول هذه المسيرات إلى أهدافها يعني إمكانية وصولها إلى أهداف المستوى الأول.

رابعاً، إنها تأكيد جديد على فشل منظومة الدفاع الإسرائيلية في منع الوصول إلى الأهداف الحيوية. خامساً، جرى الحدث بعد نشر منظومة “ثاد” الأميركية في إسرائيل، لكنها منظومة دفاع جوي بعيد المدى، وتطرح سؤالاً حول كيفية تأمين الجو ضد المسيّرات الخفيفة الفتاكة ذات البصمة الصوتية المنخفضة. سادساً، جالت المسيّرة لأكثر من ساعة في أجواء فلسطين، وبمحاذاة مروحية إسرائيلية (المشهد مصور ومنتشر)، قبل أن تنقض على هدفها، وهذا يشير إلى انعدام الحيلة الإسرائيلية أمام هذا النوع.

سابعاً، يطرح الحدث سؤالاً حول سيناريوات أكثر تعقيداً، تتحرك فيها مجموعة من هذه المسيّرات نحو مجموعة من الأهداف، وفي حالة هجوم أكثر اتساعاً يمكن أن تصحب بصواريخ دقيقة أو بعيدة من التي دخلت العمل سابقاً… هذه النقاط أوليّة فقط، ويمكن توسيعها وتطويرها لاحقاً. فما النتيجة؟

هذه التطورات ستحرك مياه الأحداث السياسية والديبلوماسية باتجاه محاولة خفض التصعيد في المنطقة. لكن معرفة الاتجاه المستقبلي لها لن يكون ممكناً قبل أن يتضح اتجاه أميركا بعد الخامس من نوفمبر. المنطقة على مفترق طرقٍ مفصلي، بين احتمالات الانفجار الكبير، وجهود منعه. وفي هذا السبيل، فإن السمات الحالية تبدو كالآتي:

–  خطوط حمر روسية أمام تغيير الخارطة الجيوسياسية، وانخراط متدرج في تدعيم موقف المحور.

– مرونة إيرانية، ومن الدول العربية الوسيطة، في الوصول إلى تسوية شاملة لوقف الحرب.

– انتظار أميركي لاستعادة القدرة على إدارة المشهد، بموازاة مراهنة كاملة على نتنياهو قبل موعد الانتخابات الرئاسية. لكن الأيام المقبلة قد تشكّل ضرورات طارئة أمام الإدارة الجديدة. وهذا ما سوف نتوسع بشأنه لاحقاً.

قد يعجبك ايضا