السكاكين السعودية على حزب الله
موسى السادة – وما يسطرون|
تقول العرب «إن سقط الجمل كثرت سكاكينه»، فحين يسقط الجمل تمسي عملية استباحة دمه سهلة تنالها مجرّد السكين، ولذلك يكثر عندها حوله الأوغاد. واقع الأمر أن حزب الله لم يسقط، رغم هول الضربة، وهذا ما لم يستطع الأوغاد السعوديون ومعهم ذيول الغزاة من العرب تصديقه، فأمسوا يطعنون في الهواء بنشوة وحماسة. وبأيما سكاكين، أضعفها وأقلها حدة، فما تعيشه السعودية في زمن أوغد الأمراء هي أكثر مراحل ضعف وزنها الإقليمي. ولمن هو على دراية بالدور الإقليمي السعودي منذ الخمسينيات، والأثر الكارثي للطفرات النفطية المتتالية على تاريخ العرب والمسلمين، يستطيع أن يستشعر اليوم حجم الوهن السعودي ليس فقط بالكم بل بالنوع أيضاً.
كانت السعودية فاعلاً إقليمياً بحزمة من أدوات القوة في العلاقات الدولية المالية والأيديولوجيا الدينية، بينما هي اليوم لم تتدهور وتنسحب عن استخدام صندوق أدواتها التاريخي فقط. صحيح أن السعوديين يعملون بمثابرة على تحويل العولمة والاستهلاك والترفيه لنوع من القوة الناعمة، تخترق قطاعاً واسعاً من العرب، من نادي المترفين ومدمني الاستهلاك، الكتلة البشرية الأوهن والأكثر هشاشة ورخاوة، لتخوض بها مساراً تريد فيه أن تكون فاعلاً في التاريخ، بل أمثال هؤلاء هم تذكرة خروج منه؛ أن تكون مفعولاً به بتعبير أبو عبيدة، وأكثر من أي وقت مضى.
وللمقارنة، في أحد سجون الرياض أحد معتقلي تنظيم القاعدة منذ بداية الألفية، له أكثر من عقدين في السجن، رأى عبرها تبدّل المساجين، يقول لمن شاركه القسم معلقاً بغضب وتهكم، كيف أن جيله كان يدخل السجون بـ«جيب مفخخ»، والآن هو محاط بالمغرّدين. هذا هو تحديداً التبدل التاريخي للدور السعودي، من فاعل استخباراتي بجحافل من المقاتلين والقتلة المستعدين للموت إلى جيش من المغرّدين والإعلاميين.
يعي السعوديون ذلك، ويستشعرون الضعف، وأنهم ذهبوا لمسار العولمة ونمط الاستهلاك كقوة ناعمة ولكن وكما تقول العرب «راحوا للحج والناس راجعة». ذهبوا بسكرة نيوليبرالية هي لم تكن لتنجح في زمن ما قبل «الطوفان» لتنجح في ما بعده. إن هذا الشعور بالضعف تحديداً هو ما يحكم أفعالهم وانفعالهم وخطابهم الإعلامي. بل لاحظوا أيضاً أنهم وكلما استشعروا أزمة غياب «الفحولة» وأن الوطن العربي في حرب ضروس يخوضها الرجال وعناوينها الشجاعة والقتال والسلاح، وهم ما بين الرقص والموائد والترفيه، فتحوا من جديد صندوق الأدوات القديم محاولين استعارة شيء من ماضي أوج الأيديولوجية الوهابية، وكأن لسان حالهم يقول لقد كنا لاعباً تاريخياً مدمراً وفتاكاً يوماً من الأيام.
المسألة هنا أنه، وليس من باب المناكفة ولكن بالتحليل الملتمس للموضوعية، يعيش السعوديون اليوم دوراً عجيباً في العلاقات الدولية، فلا قوة خشنة، ولا حتى آلتهم الإعلامية ترقى إلى أن تصنف بأنها قوة ناعمة، خصوصاً بجوار أخبثها وأكثرها احترافية لدولة قطر. بل لعله ولأول مرة يمسي التنمر والصبيانية والاستفزاز أداة في العلاقات الدولية وللعب دور إقليمي، ولكي يكون للسعوديين وزن، أو جزء من معادلة ما في الصراع، وليعالجوا شعورهم بالنقصان. إضافة إلى ذلك، ليثبتوا للأميركيين والإسرائيليين أنه لا تزال لنا قيمة ودور، وكيف؟ كما أننا نحتكر مصادر الشاباك والمخابرات الإسرائيلية، فأيضاً نجحنا في استفزاز بيئة المقاومة وحزب الله، وبمهزلة يخالون أنهم يمارسون «حرباً إدراكية» عليهم. من هنا، ومن دون مبالغة، يدخل السعوديون ومن معهم من ذيول الغزاة التاريخ عبر طعن في الهواء لجمل لم ولن يسقط. وما معيار الدور والوزن للمملكة العظمى ذات التسعين عاماً سوى نسبة لوزن المقاومة الإسلامية وما يظنون أنها طعنات شاركوا فيها في قتل حزب الله. من هنا، فإن الوقوع في شباك رد الفعل على السعوديين وقنواتهم الممولة اللبنانية، هو إعطاء قيمة للسعوديين، هو إدخالهم للتاريخ، فلا تدخلوهم. إن أي رد فعل غاضب أو منزعج من مريدي المقاومة على فعل سعودي، يُشعر الأخير أنه مساهم في الحرب، من وراء الشاشات ومن على كنبات البيوت. وبطبيعة الحال، هذا لا يعني عدم مواجهة الآلة الإعلامية الخليجية والسعودية المتكالبة على المقاومة ولكن من دور الفاعل لا المنفعل، فنحن التاريخ وصنّاعه، لا أمراء آل سعود ومغرّديهم.
الجانب الآخر من بلاهة الأوغاد، هو كيف أنهم حقيقة ظنوا أن حزب الله سقط فسارعوا إلى سكاكينهم. وكان ذلك لأن كيف لأمثالهم أن يعرفوا تاريخ الحركات الاجتماعية المتجذرة في الأرض، هذا الوجود الإسلامي، المولود من رحم مقارعة الغزاة؟ وهم ظاهرة تاريخية ولدت من رحم الغزاة، إنكليز وأميركيين، وباحثين عن مأمن عبر حلف مع المستعمرة الصهيونية. وهنا تحديداً موطن حقدهم على الضاحية، فالفارق لا التفريق في أي دراسة مقارنة، بين حزب الله والمقاومة الفلسطينية، أنه يمثل حالة سياسية تحررية خارج المظلة المباشرة للاستعمار الصهيوني. ولذلك، مثّل الحزب حالة ثورية قابلة للعدوى لباقي المجتمعات العربية دونما شرط الاحتلال. هذا التهديد المباشر، يجعل العلاقة التي تنسجها الأنظمة العربية مع المقاومة في لبنان تختلف عن المقاومة الفلسطينية بالخزان التاريخي المعنوي للقضية، وهذا ما نشهده مباشرة الآن في محاولة الإزاحة والتغيير لنمط التغطية في الإعلام العربي والخليجي بين جبهتي لبنان وفلسطين. وهي محاولة تعيش أزمة في ظل وحدة المصير بين الجبهتين بما يدخل الإعلام الخليجي ومغرّدي السعودية في أزمة نزع المقاومة الإسلامية عن فلسطين، التي لا يزالون في حيرة حول الصدام معها ومع شرعيتها العربية والإسلامية بالطريقة الإماراتية.
هذه الرابطة والنسيج الواحد بين حزب الله وفلسطين والصدام المباشر مع العدو ضمن ملحمة تاريخية بعنوان «طوفان الأقصى»، هما ما يعيدنا إلى وهم سقوط الجمل. فحقيقة ما نشهده، والسعوديون أتفه من أن يروه، وليس تطبيباً لجرح، هو ولادة جديدة للمقاومة، وفي ظرف تاريخي عظيم في قدره. فكما كانت كيمياء ولادة هذه الحركة الاجتماعية عبر عوامل: هزة إقليمية بعد الثورة الإسلامية في إيران، وصدام مباشر مع الاحتلال الصهيوني، وبرمزية شخصية تاريخية كبيرة، الإمام الخميني، فإن الولادة الجديدة والتبدّل الجيلي للمقاومة، بمزيج بين الأجيال، أتيا في سنها الأربعين، وبفضل من الله، بذات الكيمياء: هزة الطوفان، وصدام مباشر مع الصهيونية، وبرمزية إمامنا الشهيد السيد حسن نصرالله. إن هذه الكيمياء مطمئنة ومبشّرة، وهي كمال للشروط الموضوعية للولادة الجديدة لحركة المقاومة العربية. بل إن كل الخشية كانت من مآل غير هذا، أن ينجح الأميركيون وسكاكين المال السعودي من جيوش القتلة في أحد مشاريعهم خلال العقود الماضية. أمّا اليوم، فنحن من نخوض التاريخ بالكتلة الاجتماعية الجديرة بتغييره في كل المشرق العربي، وإنه من العار أكثر من أي وقت مضى أن يكون أبناء القصور والترفيه نظراء لنا على أي مستوى، أو لينزلنا الدهر ليقال حزب الله والسعودية في جملة واحدة، فيكون لهم وزن وهمي في معادلتنا ونحن نعمل على تأديب العدو وإلحاق الهزيمة به.