طريق الـ 82: ولادة ثانية
بلال اللقيس – وما يسطرون|
نحن أمام مرحلة أشبه بمرحلة عام 1982 من حيث الماهية وإن تمايزت الظروف ومقوّمات إدارة المعركة وعوامل الصراع ومثاقيلها. كانت حينها بيئة دولية مضطربة مع بداية ترنّح المعسكر السوفياتي وبروز الأمراض المميتة في جسده وذروة صعود الغرب وشعوره بالتفوّق. كان عام الـ 82 فعلاً عسكرياً لإسقاط لبنان ثم سوريا وصولاً إلى وأد جذوة الثورة الإسلامية الوليدة حينها، أي كان عبارة عن مشروع أميركي إسرائيلي لهيمنة إقليمية إسرائيلية بمواجهة العرب، ودولية في مواجهة القطب السوفياتي. كانت البوابة لإحداث هذا التحوّل هي ضرب المقاومة الفلسطينية في لبنان وإخراجها كمقدمة لإنهاء القضية الفلسطينية وطردها من المنطقة كلياً. وكانت حينها الأنظمة العربية الخليجية والأردن ومصر وغيرها من الدول العربية والأنظمة قد سلّموا الأمر إلى أميركا وسارعوا فيها، فالقيادة بالكامل ستكون لثنائي ريغان ــ تاتشر، بل دعموا سياسات ريغان عالمياً وإقليمياً ومحلياً (على إثر البترودولار وخصخصة الاقتصاد)، وكان لبنان يعاني شتى صنوف الاقتتال والاحتراب والرهانات الداخلية. كانت كل الأمور تسير وتوحي بأن زمناً جديداً أميركياً غربياً إسرائيلياً يولد.
لكن من رحم هذا المشهد البالغ التعقيد وتلكم اللحظة التاريخية، وُلد حزب الله، أو مجموعات متفرقة ستُعرف لاحقاً بحزب الله. لم يكن هناك تنظيم ولا هرميات ولا حتى تجانس فكري كاف سوى تلبية نداء الضمير الإنساني والأخلاق والحق الطبيعي بالمقاومة وتلبية نداء وتكليف أطلقه الإمام الخميني بضرورة المقاومة مع ما أصبغه هذا التكليف من بعد لبيئة لديها عمق ديني وتاريخي وتفهم جيداً معنى أن يحدد التكليف وآثار ذلك على كل نفس مؤمنة بمفردها أو على الجماعة ككل. حينها، ولد نداء المقاومة في نفوس شباب لم تكن أعمارهم تجاوزت العقد الثاني والثالث، وشرعت كل صحبة أو مجموعة أو زمرة في فعل الجهاد والمقاومة وتمكّنت، إلى جانب قوى لبنانية ووطنية وعربية أخرى، من صد الهجوم الأميركي الإسرائيلي المفاجئ الذي وجد ذريعة حينها (محاولة اغتيال سفير إسرائيل). وفي تلك الفترة، خسرت بيئة المقاومة قائدها السيد موسى الصدر، فقائداً آخر وفيلسوفاً وموجهاً هو السيد محمد باقر الصدر، وعشرات العلماء الأفذاذ في إيران كآية الله بهشتي أكبر المنظرين والمفكرين للثورة حينها. لكن مع كل الألم والمشهد المركب أتى عام 1985 وكانت قد نجحت مجموعات المقاومين وتنوعات ملامحهم ومشاربهم وبقتالهم اللامركزي وغير المنسق (كل كما شخّص) في إخراج إسرائيل حتى صيدا ثم إلى الشريط المحتل. وفي عام 1985 بدأت الناس تتعرف إلى هؤلاء الشباب من هم وما هي قصتهم. وكان ما كان من قصص نجاح أشبه بالأسطورة وصولاً إلى عام 2024. أمّا اليوم، فلا شك أن الصراع أعقد لجهة أدواته وأساليبه، لكنه من نفس الماهية والموضوع والذرائع والخلفية.
إسرائيل تعيش تهديداً وجودياً وقلقاً عميقاً، وهي دخلت في تحول هوياتي وتقترب من أن تدخل في عقد جديد (عملياً دخلت) لذلك هي أكثر استشراساً وتوحشاً. وأميركا قد تكون أمام آخر فرصة لإعادة استيلاد هيمنتها وترميم مسارها التراجعي ومكانتها وتأثيرها العالميين، لذلك هي أشد خطورة ووحشية وتمر بتحولات تطال العقد الاجتماعي فيها، ما يجعلها بحاجة إلى إنجازات في الخارج. وقد يكون من أشكال الشبه مع مرحلة الـ82 هو التعجل واعتبار الإنجازات الأولى فرصة لتغييرات كبرى كما يلاحظ (على غرار ما وقع به شارون حينها، أولها الاستعجال، وثانيها نشوة الإنجازات الأولى: اغتيال قيادات الصف الأول وصولاً إلى المقدس الأمين العام). وهناك أيضاً الدعم الغربي وجل العربي المطلق لها. ومن أوجه الشبه أيضاً أنه بالأمس أعلن السيد الخامنئي تكليف المقاومة على الأمة جمعاء.
أمّا أوجه الاختلاف، فهي أولاً أن بنية حزب الله تقرأ في كتاب واحد وأن مجتمعه ملتف بالكامل حوله ومتماهٍ معه، وأن الشعوب العالمية أكثر تأييداً للحق والقضية الفلسطينية، وأن الشعب الفلسطيني بات بالكامل مؤمناً بمقاومته وبمنهج المقاومة كطريق وحيد بعد «طوفان الأقصى» (والذي لا يؤمن صار في نظر الفلسطينيين عميلاً وخائناً). المقاومة اليوم أكثر تدريباً وتجهيزاً وخبرة وروحية وعقلانية لما أضفاه السيد حسن نصرالله من تربية وتوجيه وصحف تركها لهم وبقوة حضوره بينهم، فمجتمع المقاومة وشبابه يقرؤون في كتاب واحد هو كتاب الولاية، وأداؤه العسكري يقوم على طريقة كان قد تحضّر لها هي القتال اللامركزي والطويل، وإمكاناته العسكرية أُعدت لحرب يكشف فيها عمق الكيان الصهيوني وبناه لمدد طويلة وربما لسنوات. ولا يزال هناك نظم، مع وجود شخصيات وقادة، يشكّلون ضمانة في الإدارة والتوجيه للمجتمع والمقاومة، رغم شهادة كبار ممن استشهدوا.
وفي الداخل اللبناني، لا يوجد (بحسب الظاهر) من هو جاهز لملاقاة إسرائيل كي تستغله في صراع داخلي مع بيئة المقاومة، فاللبنانيون قد اعتبروا، حتى أولئك الذين لا يكنون الود للمقاومة وحزب الله. هناك وعي لبناني عام وتنبّه إسلامي وأيضاً مسيحي.
ودولياً، إيران أكثر حضوراً وقوة وتأثيراً وهي اليوم دولة مفتاحية عالمياً، وباتت في قلب الميدان بمواجهة الكيان الصهيوني وليست عالقة في معارك جانبية كالتي فُرضت عليها مع العراق أو بمواجهة التكفيريين. وروسيا تخشى من أنّ إسقاط المقاومة أو تراجعها في لبنان ليس إلا مقدمة لإسقاط سوريا كما الأمس القريب بالأدوات الأميركية (وإن تبدّلت)، فهي قلقة وخطابها يتصاعد لمنع ذلك ولو بحدود دعم معينة. واليوم، هناك شعوب ودول عربية جديدة على مسرح الصراع (جديد المنطقة اليوم اليمن والعراق وفتوى سماحة آية الله السيستاني، ومصرالتي وإن اختلفنا معها على أمورعدة لكن يبقى منظورها للأمن العربي والإقليمي والمصالح العليا مختلف عن مناظير دول ركيكة أو أشباه دول كالإمارات والبحرين والأردن ومملكة آل سعود).
لذلك، يلاحظ من هذه البانوراما والظروف، ما اختلف منها عن عام الـ82 وما اتفق، أعتقد أنه يتوجب على مجاهدي حزب الله، في شتى الميادين العسكرية والفكرية والثقافية والإعلامية والاجتماعية، النظر إلى المرحلة كأنها ولادة ثانية، ولحظة لينبروا فيها إلى تحمّل المسؤولية التاريخية بإخلاص وتوكل على الله والحق، وينظروا في حجم الأمانة وثقلها وضرورة الاستقامة على عظيم ما أنجز برعاية الجيل المؤسس وقيادته، ولا سيما المقدس الحبيب الشهيد نصرالله، فيكملوا ما بلغهم إياه ويصدقوا إزاءه. فالفرصة التاريخية أكبر مما نتصور، والأمل أكبر مما نتصور، بإذن الله وجهد الجاهدين. التكليف واضح ومقومات خوض المعركة والانتصار فيها بيّنة، والبيئة العربية الإسلامية أفضل من أي وقت في تاريخ المسلمين، قد حفز لاندماجها مثلث: قاسم سليماني ــ وإسماعيل هنية ــ والمقدس الشهيد نصرالله. ونضيف: كثير من أنظمة الخليج هشّة وقلقة وأميركا لم تعد كما كانت كما ستنبؤنا انتخاباتها حتى لو تظاهرت بمزيد من إظهار القوة والعسكرة.
إذاً، المسؤولية علينا اليوم هي المبادرة والمقاومة وكسر المشروع الصهيوني، فالميدان سيحدد الولادة الثانية لهذه المسيرة التي سيكون شوطها الثاني هو «ما بعد الكيان الصهيوني» وراية الإيمان خفّاقة في العالم الجديد.