الحرب الموازية: كلامٌ لا بدّ منه
عامر محسن – وما يسطرون|
علينا، في أيّام الحرب الإعلامية وطغيان التضليل، أن نرجع قليلاً الى الأساسيات. من البداية: اللبنانيون واليمنيون والعراقيون والايرانيون قد دخلوا، بطرقٍ مختلفة، حرباً “أخلاقيّة” بالكامل دعماً لغزّة. بمعنى أنهم خاضوا معركةً لا يطلبون فيها شيئاً لأنفسهم. اليمنيّون، مثلاً، لا يستهدفون السفن لأجل القرصنة أو لطلب غنيمة، بل هؤلاء جميعاً قالوا إنّ هناك حرب ابادةٍ ضدّ الفلسطينيين في غزّة، وهم ببساطةٍ لن يسمحوا لها بأن تجري أمامهم من غير أن يفعلوا شيئاً.
بل كان “أنصار الله” في اليمن – قبيل الحرب – في مسار سلامٍ وتصالح، بعد أن أنهكت بلادهم الحرب الطويلة، فأصبحوا في صدامٍ مع القوى الدولية التي كانت تفاوضهم. وفي لبنان، كما تعلمون، فيما كان “حزب الله” يخسر المئات من شبابه وقادته، كان خصومه في الداخل يقومون بحصاره سياسياً، وينسّقون علناً مع معسكر العدوّ، ويتهّمونه يومياً بأنّه خرّب البلد. في لبنان الغريب هذا، أصبح الطبيعي أن يتابع الجمهور وسائل اعلام معيّنة تحديداً لأنه يريد معرفة الموقف الاسرائيلي وما يريد بثّه (لولا ذلك، من كان سيهتمّ بتغطية قناةٍ مثل “ام تي في” وغيرها لحربٍ في الجنوب؟). بل وهم يفعلون ما هو اسوأ، حين يعزّزون سرديّة أنّ الحرب الاسرائيلية ليست ضدّ اللبنانيين وعائلاتهم وأولادهم، بل ضدّ خصومهم فحسب، ضدّ “ناسٍ آخرين” وشعبٍ آخر. في بلادي، يبدو أن الناس قد اعتادت عدم حفظ “خطّ رجعةٍ” في مثل هذه المناسبات، وعندها شراهةٌ أمام “الفرص”.
المنافق في المسجد كالطّير في القفص
بالنسبة الى جبهة لبنان، فإنّ أسباب الحرب معروفة، و”فلسفة” الحرب ومسارها ايضاً، وقد شرحها بوضوح نوّاف الموسوي في مقابلةٍ خلال الأشهر الأولى. قال الموسوي ما معناه إنّه، حين اجتمعت القيادة العسكريّة في البداية، لم يكن السؤال هو عن الكلفة أو مقدار التضحية، بل كان أساساً في صيغة “هل هناك شيءٌ ما يمكن أن نفعله يوقف الحرب على غزة؟”، وحين كانت الإجابة بالنفي انتقل البحث الى حربٍ اسنادٍ بشكلٍ مختلف، ورُسمت أهداف عسكرية بديلة، بعضها نجح وبعضها لم ينجح (والمرّات التي تنازل فيها “حزب الله” على سلّم التصعيد، وخسر من قدرة الردع لديه، فهي لم تكن لحساباتٍ تتعلّق بغزّة، بل بالجبهة الداخلية وكلفة الحرب الواسعة على المدنيين). على الهامش: أنا انتابني التشاؤم والترقّب في تلك المرحلة، لا لأسبابٍ أمنية أو عسكريّة لا أعرفها، بل لأنّك أصبحت تخوض حرباً – ضدّ قوّةٍ متفوّقة – من غير أهدافٍ سياسية واضحة، ونهايتها ليست في يدك؛ وهذه الأمور عادةً لا تنتهي بشكلٍ جيّد. للمقارنة: في حرب التحرير مثلاً، أو في حربٍ دفاعيّةٍ مثل 2006، يكون المسار أمامك واضحاً. العدوّ قد دخل عليك، وهو وضع لنفسه طموحاتٍ معيّنة، جلّ ما عليك فعله هو افشالها ومنعه من تحقيقها (وأحياناً مجرّد الصّمود) لكي تخرج رابحاً.
عودةٌ الى موضوعنا، أستعيد مسار الأمور هذا لسببين:
أوّلاً، للردّ على بعض النقاش المسموم الذي طال الجبهة اللبنانية وغيرها من الجبهات طوال شهور الحرب العصيبة. لكلّ ماركةٍ أو شركةٍ مقولةٌ تمثّلها، وهؤلاء الذين ظهروا فجأة تختصرهم مقولة “مناسبة” وانتهازية انتشرت مفادها “نحن نعرف سلفاً أن الأنظمة العربية تابعة ومتخاذلة، ولهذا لا نتوقّع منها شيئاً، فلننسها اذاً ونركّز هجومنا على المقاومة والأنظمة التي تدعمها” – وهذا بالضبط هو ما فعلوه. أقول إن هذا الكلام “سيئ” ليس فقط بمعنى انه يحوي مزايدة أو طفولية أو عدمية (وهي في ذاتها خصالٌ خطيرة، قد تبدو طريفةً في سياقٍ غربي مترف ولكن لا مكان لها وسط شعوبٍ تخوض صراعات وجوديّة ودقيقة، نعرف جميعاً كلفتها)، أقصد انه “سيئ” بمعنى الشبهة والأيدي الخفية والمشاركة في الحرب على المقاومة. الفكرة بالنسبة الى جمهور المقاومة هي انّه سيكون من السذاجة أن يفترضوا البراءة والنوايا الحسنة وسط الحرب الكاملة التي تشنّ عليهم. هل تعتقدون انّه لا يجري “العمل عليكم” طوال الوقت؟ وبكلّ الوسائل والأشكال، وعبر أصواتٍ مختلفة من كلّ لونٍ ومذهب؟ انت هذه الأيام لا تثق بالانسان وإن كنت تعرفه وتعرف اسمه وعنوانه، بينما الاعلام والانترنت قد تحوّلا الى غابة من الروبوتات المجهولة – بشرية وغير بشرية – تديرها أيدي الحكومات.
السّبب الثاني لهذا الكلام هو أن سؤال “الهدف السياسي” قد تمّ حلّه وأصبح خلفنا: العدوّ قد دخل عليك – علينا جميعاً – وهو قد وضع لنفسه أهدافاً، أقلّها أنه يريد اجتثاث المقاومة أو شلّها، وصولاً الى اجتثاث كلّ شعبٍ يحضنها. هذه حربٌ أوضح. وانت هنا تعرف بسهولةٍ ما يتوجّب فعله: امّا الهزيمة الكاملة، أو أن تكون مستعدّاً لأخذ العدوّ الى أبعد مكانٍ وأيّ حدود، ومعه المنطقة بأكملها إن لزم الأمر، لكي تدافع عن وجودك وأغلى ما لديك.