العودة إلى «الشرق الأوسط الجديد»
فؤاد إبراهيم – وما يسطرون|
ما أفشله حزب الله في حرب تموز 2006 ونجاحه في تعطيل أهداف العدو الصهيوني وفي طليعتها إعادة تشكيل الشرق الأوسط، وبناء آخر جديد بحسب إعلان وزيرة الخارجية الأميركية حينذاك كونداليزا رايس في الأيام الأولى للحرب، يعود قادة المحور الصهيو ــ أميركي ومعهم الأوروبيون والسعوديون والإماراتيون إلى إعادة إحيائه في محاولة لرسم «خرائط جديدة»، بتقويض محور المقاومة في حرب شاملة ومتدحرجة بدأت في غزة وتالياً لبنان، ويُراد لها الانتقال إلى ساحات أخرى (سورية وعراقية ويمنية وإيرانية).
ولم يكن قلق الرئيس التركي إردوغان مجرد حلم منغّص من أن تركيا تقع في صميم استهدافات الحرب الجارية وأن «إسرائيل» تضع تركيا «نصب عينيها» بعد لبنان، على قاعدة أن «نتائج الحرب على لبنان لن تشبه مثيلاتها في السابق»، فيما ينظر متابعون أتراك للشأن الإسرائيلي بأن «المسألة ليست في نتنياهو أو حتى إسرائيل» وأن ما يحصل هو «مشروع إسرائيلي ــ أميركي مشترك» بحسب عبد القادر سيلفي في صحيفة «حرييات» التركية (انظر «الأخبار» 3 تشرين الأول 2024).من جهته، وجّه الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، في تصريحه من الدوحة بعد لقاء وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان في 3 تشرين أول الجاري، دعوة إلى دول المنطقة بالوحدة أمام هذا العدوان في غزة ولبنان اليوم، وإلا «فسيأتي دور بقية الدول الإسلامية غداً». وهذه الدعوة ليست شكلية أو مجاملة ديبلوماسية، بل تنطوي على رسالة إلى دول المنطقة بأن أي انجرار وراء المخطط الصهيو ــ أميركي يعني اشتعال حريق كبير في المنطقة والعالم بأسره.
ويبدو واضحاً أننا أمام مرحلة جديدة قد لا تظهر معالمها على نحو فوري وجلي، ولا بد من تلمّس/ استشراف مستقبل المواجهة الجارية بين محورين: محور المقاومة بقيادة الجمهورية الإسلامية في إيران والمحور الأميركي ــ الإسرائيلي، لوضع سيناريوهات تقريبية عن مآلات الصراع وما تنطوي عليه من نتائج وماذا يمكن فعله.
في المدخل، وعلى نحو شبه يقيني، إننا اليوم أمام معركة طويلة زمانياً ومتمدّدة مكانياً بحسب طبيعة الميدان ومتغيّراته. ما يجعلها كذلك، هو كونها معركة وجودية ليس بالنسبة إلى الكيان الإسرائيلي فقط، بل وإلى الغرب برمته، لأن المعركة تدور رحاها في الفضاء الحيوي للمصالح الغربية ومركز صراع قوى الشرق والغرب.
وفقاً لهذا المعطى، فإن الإستراتيجية العسكرية الإسرائيلية، سواء لجهة مدّة الحرب وأعداد القتلى، قد تبدّلت جذرياً، ولأنّها معركة وجودية فإن طول أمد الحرب وارتفاع أعداد القتلى وحتى الانكسارات العسكرية الجزئية لا تشكل هواجس لدى صنّاع القرار العسكري الإسرائيلي والأميركي. فقد تجاوزوا العقيدة القتالية الكلاسيكية وباتوا مستعدين لخرق الثوابت القديمة حتى على مستوى الانتخابات الرئاسية الأميركية التي عادة ما تكون مرحلة ميّتة سياسياً وعسكرياً لم تعد واردة في حسابات صنّاع القرار السياسي والإستراتيجي في واشنطن. ببساطة لأنها معركة وجودية.
من جهة أخرى، لن تكون معركة سهلة وإنما مواجهة شرسة وطاحنة، وهناك أثمان باهظة يتم دفعها في الأرواح والممتلكات، لأن المحور الآخر، المدفوع بالخوف من الفناء، يخرج كل ما لديه من سلاح فتّاك ومدمّر من أجل منع الوصول إلى تلك اللحظة الفاصلة في تاريخ الصراع الدولي.
المعركة الدائرة في غزة ولبنان خرجت من كونها معركة محلّية وأصبحت ذات طابع كوني، يشارك فيها الغرب بقواه الفاعلة (الولايات المتحدة، وبريطانيا وفرنسا وألمانيا)، في مقابل محور المقاومة بكل جبهاته التي تنتقل تدريجياً من مرحلة الإسناد إلى الاشتباك المباشر.
وإذا كانت الولايات المتحدة قد تكفّلت في الأشهر الماضية بمهمة الدفاع عن الكيان الإسرائيلي عبر إرسال الأسلحة المتطوّرة (طائرات «أف 35» وصواريخ خارقة للتحصينات) وحضورها العسكري المباشر (حاملات طائرات وبوارج حربية)، فإن القوى الأوروبية (بريطانيا وفرنسا بدرجة أساسية) بدأت بتكثيف حضورها العسكري في مياه المتوسط والبحر الأحمر والخليج. المهمات الموكلة إلى القوات الغربية بكامل حمولتها العسكرية تتجاوز «الدفاع عن إسرائيل»، وتعزّز فرضية التمهيد للحرب الشاملة بهدف فرض معادلات جديدة إقليمية وتالياً دولية.
منذ اغتيال سيد شهداء طريق القدس بدأت نبرة التصريحات الأميركية والأوروبية والإسرائيلية تفشي بعضاً من مدسوسات الخطة الغربية في حدودها المفتوحة والممتدة من غزة ولبنان إلى إيران وروسيا والصين وما بينها، وإن كلام نتنياهو عن اليد القادرة على «الوصول إلى أي مكان في العالم»، وحديثه عن «تغيير الواقع الإستراتيجي في الشرق الأوسط» لم يكن تطلعاً عنجهياً، وإن كان هو في ذاته تجسيداً للعنجهية الفجّة، ولكنّه يفصح عن المخطط الكوني الذي يجمع بين «دولة إسرائيل الكبرى» والنظام الأميركي الإمبريالي انطلاقاً من خريطة «الشرق الأوسط الجديد». لم يكن المقصود به تحوّلاً جيوسياسياً محدوداً، ولا الحد من النفوذ الإيراني في المنطقة، بل هو أبعد من ذلك، أي بحسب المصطلحات المستعملة في دوائر صنع القرار الإستراتيجي: إعادة رسم خريطة العالم، وتبديل مراكز القوى لمصلحة الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة .هي باختصار: ميني حرب عالمية ثالثة.
لم يكن من قبيل الصدفة، ما روّجت له شركات بناء إسرائيلية لمستوطنات في الجنوب اللبناني عبر الإعلانات والمواقع الإلكترونية على أن تخصّص المستوطنات بمنازلها الفاخرة للضباط الصهاينة المتقاعدين، وهذا الترويج يستند إلى سردية إمبريالية صهيونية ترى في لبنان بتمامه جزءاً من دولة إسرائيل الكبرى، ربطاً بتغيير ديموغرافي وجغرافي («الأخبار» 2 تشرين الأول 2024).
إن استحضار نصوص توراتية لإضفاء بُعدٍ أيديولوجي على الحرب العدوانية الصهيو ــ أميركية على غزة ولبنان وبقية جبهات محور المقاومة، مشفوعاً برؤية صليبية متجدّدة، تبطن نزوعاً استعمارياً يقوم على تقسيم العالم إلى معسكرين: نحن والآخر. وهذا ما عكسه رئيس حكومة الكيان الصهيوني نتنياهو في خطاباته الأخيرة وحديثه عن محور النعمة ومحور اللعنة، على أساس أن محور النعمة يشمل دولاً عربية مثل السعودية والإمارات والبحرين والأردن إلى جانب الكيان الإسرائيلي ومعها الولايات المتحدة وأوروبا، فيما يغطي محور اللعنة المساحة الممتدة من إيران والعراق وسوريا ولبنان إضافة إلى اليمن.
ما يجدر لفت الانتباه إليه هو صمت السعودية وشقيقاتها عن تضمينها في محور النعمة الصهيو ــ أميركي، كما صمتت عن إدانة جرائم نتنياهو في لبنان، ولا سيما اغتيال سيد شهداء طريق القدس السيد حسن نصرالله والقادة الجهاديين الكبار في الحزب. ليس ذلك مستغرباً، فقد أفادت محاضر الاجتماعات المشتركة بين الجانبين السعودي والإسرائيلي، وبحسب مصادر وثيقة الصلة بالتطورات الجارية في لبنان، أن السعودية طلبت من الكيان الاسرائيلي تصفية أربعة من قادة المقاومة الإسلامية في لبنان لمشاركتهم في دعم اليمن ضد العدوان السعودي الإماراتي.
على أي حال، فإن المعركة المفتوحة اليوم تتجاوز الجغرافيا الحالية، وإن ثمة وحدة ساحات ووحدة ساحات مضادة تتصادمان في فضاء مفتوح ومتنقّل ومن شأنه التأسيس لعالم جديد، وقد يحمل بشارة التحرر من الهيمنة الإمبريالية الأميركية وفروعها الأوروبيات وكيانها المأزوم.