في خضمّ الانحطاط الإسرائيلي
ميشا نوفل – وما يسطرون|
الدول الاستعمارية تتمتّع بفسحة من الحياة محدودة، وإسرائيل، دولة الاستعمار الاستيطاني، ليست استثناء. قد تتباهى إسرائيل بإظهار تفوّقها في حروب الإبادة الجماعية في قطاع غزة والضفة الغربية ولبنان، ولكن الحماية الأميركية هي التي تقرّر بالنهاية الحدود المتاحة لدولة يهودية صافية، أو دولة دينية ركيزتها الأصلية حرمان الشعب الفلسطيني من حقوقه الأساسية بعد اغتصاب أرضه.تتصوّر الصهيونية الدينية أنّها تحتاج إلى القليل من الوقت لإنجاز هدف القضاء على غزة وجعلها «منطقة غير قابلة للعيش».
وإذ تفعل تجازف بإعلان موت إسرائيل «الغربية والليبرالية»، لتكشف وجهها العنصري القائم على القمع والإرهاب، الأمر الذي قد يفضي إلى خسارتها تعاطف الأجيال الشابة من اليهود الأميركيين. وبالفعل، يُتوقّع أن تشهد التحوّلات الاجتماعية الأميركية وصولَ أجيالٍ جديدة إلى السلطة تبتعد تدريجياً عن إسرائيل، مثلما تبتعد الأجيال الحالية عن أوكرانيا.
وفي نهاية المطاف، إنّ السند الشعبي لإسرائيل في الولايات المتحدة الأميركية، سوف يقتصر على الفاشيّين الإنجيليين الذين يرون في سيطرة إسرائيل على فلسطين التاريخية إشارةً سابقة إلى قيام «مملكة الله»، ويعتبرون أن استعباد العرب هو شكل مقبول من العنصريّة ما دام يؤكّد التفوّق للعرق الأبيض.
وتبدو الحياة الثقافية والفنية والصحافية في إسرائيل مرشحة للانحدار، إذ إن الدولة لن تكون أكثر من كيان فارغ من الحيويّة في ظل سيطرة المتعصّبين الدينيين، ومعهم اليهود المتطرّفون وهيمنتهم على الخطاب العمومي. وسيكون الاستكبار العرقي والديني لإسرائيل صفتها المميزة، ما يفسّر اندفاع المستكبرين البيض الأكثر رجعيّة في الولايات المتحدة وأوروبا، إلى إظهار الدعم القوي لإسرائيل.
ثم إن انحطاط إسرائيل سوف يفضي بالمجتمع إلى الشعور بالإحباط والخمول، ولن يكون في مقدورها عندئذٍ استقطاب المتعاونين من الأصلانيين، مثل محمود عبّاس وبيروقراطية السلطة الفلسطينية لكي يقوموا بعمل المستعمرين.
وهكذا لا يبقى أمام إسرائيل سوى التصعيد العنفي والإرهاب إلى مستويات عليا كما نرى في لبنان وغزة والضفة الغربية، وهذه ظاهرة من شأنها أن تسرّع عمليّة التقهقر الإسرائيلية. ذلك أن العنف اللا محدود يمكن أن يكون فاعلاً بيد المستعمر في المدى القصير، مثلما كانت الحال خلال الحرب التي شنّتها فرنسا على الجزائر، أو «الحرب القذرة» التي قادتها الديكتاتورية العسكرية في الأرجنتين، أو الحرب البريطانية في شمال إيرلندا، ولكنه يصبح في المدى الطويل سلوكاً انتحارياً.
الحصار والإبادة في قطاع غزة مثّلا الحاضنة التي رأت ولادة جيل جديد من المقاومين الأشدّاء، وهم مستعدّون لملء الفراغ الذي قد يتركه الشهداء
واقع الحال أن مقاومة حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة، جعلت مقاتلي حركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية الأخرى، أبطالاً يجلّهم العالم العربي والإسلامي، بل الجنوب العالمي. ويمكن لإسرائيل، بآلتها العسكرية الهائلة وتكنولوجيا استخباراتها، أن تلاحق وتقتل قادة من المقاومة الفلسطينية واللبنانية، بل هي نجحت سابقاً وحالياً في تنفيذ عمليات اغتيال طاولت قادة بارزين من المقاومة اللبنانية يتقدّمهم السيد حسن نصرالله الأمين العام لحزب الله، ولكنها فشلت في النيل من روح المقاومة وفاعليتها والترابط المصيري بين فلسطين ولبنان.بل إن الحصار والإبادة في قطاع غزة مثّلا الحاضنة التي رأت ولادة جيل جديد من المقاومين الأشدّاء، وهم مستعدّون لملء الفراغ الذي قد يتركه الشهداء.
وكان المجتمع الإسرائيلي قبل صدمة السابع من أكتوبر، على وشك اختبار حرب أهلية بسبب تفاقم أزمة النظام التي دفعت قطاعات وازنة من النخب المدنية والعسكرية إلى الاحتجاج لمنع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو من إلغاء النظام القضائي، وهو مطلب يصرّ عليه حلفاء نتنياهو من الصهيونية الدينية. ونتيجة لمعركة الإصلاحات القضائية التي كشفت الانقسام العميق في المجتمع الإسرائيلي، ثم الصدمة الناتجة من هجوم أكتوبر الفلسطيني الذي قوّض أسطورة الأمن الإسرائيلي، صار في الإمكان الحديث عن وحدة سلبية إسرائيلية في مواجهة المقاومة العربية الفلسطينية.
لكن هذه الوحدة التي يشدّها الحقد، لم تعد كافية لمنع المتظاهرين من إدانة حكومة نتنياهو لتخلّيها عن الأسرى الإسرائيليين في غزة، فضلاً عن أن السياسة القائمة على الحقد تشيع حالة من عدم الاستقرار الدائم.
ويتبيّن اليوم، أن عدداً كبيراً من الشباب الإسرائيليين المصنّفين في خانة الأرقى تعليماً، غادر البلاد إلى دولٍ مثل كندا وأستراليا وبريطانيا، وهناك نحو مليون منهم انتقل إلى الولايات المتحدة، علماً أن ألمانيا كانت سبّاقة في استقبال نحو عشرين ألفاً من الشباب الإسرائيليين خلال العقدين الأوّلين من هذا القرن.
ولافت للانتباه أنه منذ السابع من أكتوبر هاجر نحو أكثر من نصف مليون إسرائيلي، في الوقت الذي يجري التعامل مع المدافعين عن حقوق الإنسان والمثقّفين والصحافيّين الإسرائيليين والفلسطينيين بإطلاق صفة الخيانة عليهم في إطار حملات التشهير وتشويه السمعة المدبرة من الحكومة. ويتمّ وضع هؤلاء جميعاً تحت رقابة الدولة وإخضاعهم لاعتقالات عشوائيّة. أمّا النظام التربوي الإسرائيلي، فهو أشبه بماكينة لغسل الدماغ لحساب الجيش.
إسرائيل دولة منبوذة في العالم. وهذا ظهر جلياً في مقاطعة الوفود، في الجمعيّة العموميّة للأمم المتّحدة أخيراً، خطاب نتنياهو الحافل بالأكاذيب والتهديدات، وقبل ذلك في 12 كانون الأول عندما صوّتت 153 دولة في الأمم المتحدة إلى جانب وقف إطلاق النار في غزة. وحدهما أميركا وإسرائيل عارضتا القرار فيما امتنعت 23 دولة عن المشاركة في التصويت. حملة الإبادة ضد المجتمع المدني والمقاومة في لبنان، تزامناً مع سياسة الأرض المحروقة في غزة، تعني ببساطة أنّه لا يمكن التعويل على تسوية تلجم الجنون الإسرائيلي، وأن الإرهاب والغزو والاحتلال هي محدّدات الدولة الصهيونية.