المقاومة تكسر الإطباق الأمني وتستعيد المبادرة
علاء اللامي – وما يسطرون|
كسر الإطباق الأمني ميدانياًبمقدار ما كانت مجزرة البيجرات التي تبعتها في اليوم التالي مجزرة أجهزة الووكي توكي جديدة في أسلوبها ووسائلها وقدرتها التدميرية، بمقدار ما جاء صمود المقاومة قيادة ومقاتلين وبيئة حاضنة في مواجهة عملية كهذه كانت ستؤدي إلى انهيار دولة متوسطة الحجم لو حدثت فيها، عظيماً وفدائياً ورابط الجأش.
لقد نجح العدو في توجيه ثلاث ضربات مخابراتية تكتيكية قاسية للمقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله، ولكنه فشل في وقف تحكمها في مؤشرات التصعيد واستدراجها إلى الصدام والحرب الشاملة. كما فشل في إحداث انشقاق بين المقاومة وبيئتها الحاضنة، وأخيراً فقد فشل في الشطب على إنجازاتها الأمنية السابقة في سلسلة عمليات «الهدهد» – خصوصاً بعد الضربتين الجوابيتين عند منتصف ليل الأحد 22 أيلول – والأنفاق الجبلية الضخمة والتسلل الصاروخي إلى عمق الكيان وضرب مقر الوحدة الاستخباراتية 8200 (وحدة الاستخبارات الإسرائيلية المسؤولة عن التجسس الإلكتروني) في منطقة غليلوت قرب تل أبيب. ويبقى استمرار تحكم قيادة المقاومة اللبنانية في مؤشرات وأساليب التصعيد هو الإنجاز الأهم إلى جانب استمرار عملية التعامل بالنيران المحسوبة مع العدو الذي لم يتوقف قط خلال أيام الضربات الثلاث.
التحكم بمؤشرات التصعيد
هنا، سيكون مفيداً استذكار النصيحة الذهبية التي تنسب للجنرال الفييتنامي جياب قائد ومهندس النصر الكبير على قوات الاحتلال الأميركية في كتابه «حرب الشعب وجيش الشعب»، حول مفهوم «التحكّم بحالة التصعيد»، يقال إنه أدلى بها أمام بعض القادة الفلسطينيين خلال زيارة لهم إلى فييتنام. وخلاصة هذه النصيحة: «لا تُصَعِّد المواجهة عندما يستفزك العدو من أجل التصعيد، لأنه لن يدفعك للتصعيد إلا وهو مستعد له جيداً ويحتاجه جداً، تحكم في توقيتات ومديات التصعيد حتى تكون مستعداً ومحتاجاً للتصعيد».
أعتقد أن هذا المفهوم الاستراتيجي الفييتنامي الثمين هو الذي حكم الخطة القتالية التي اتبعها الحزب وفصائل المقاومة الحليفة له طول عام يكاد يكتمل، مثلما حكم الأداء الإيراني مع اختلاف البواعث بالنسبة لإيران. فالهدف الإيراني ظل محكوماً بهدف أكبر هو إنجاز التفجير النووي التجريبي وحيازة هذا السلاح الاستراتيجي الرادع والذي ينتقل بالصراع مع الكيان الصهيوني والغرب الإمبريالي إلى مرحلة جديدة ونوعية. فإيران لا تريد في هذه المرحلة القيام بما يدفع العدو إلى القيام بعملية هجومية كبرى يدمر فيها المُقدرات والبنية التحتية الإيرانية لصنع هذا السلاح. الحرب إذاً، وخصوصاً من جهة الحركات المقاومة الشعبية العربية وحليفتها إيران، لا تشبه من بعيد أو قريب مباراة في كرة القدم أو نزال في الملاكمة تنتهي بالضربة القاضية بل هي صراع إرادات تراكمي هائل ضد عدو متطرف وشرس إلى درجة الهوس بالدماء والجنون والعته مسلح حتى الأسنان بأحدث الأسلحة!
حتى الآن ما يبدو واضحاً هو أن العدو غامر كثيراً، وخرق جميع المعادلات والخطوط الحمراء وقواعد الاشتباك وأخلاقيات الحرب بين البشر بهدف جر المقاومة اللبنانية إلى الصدام الأكبر والحرب الشاملة وعندها يلجأ لتدمير لبنان ومدنه الرئيسية وقواعد الصواريخ المحتملة من دون المغامرة بجنوده في هجوم بري في المرحلة الأولى. كما يبدو واضحاً أيضاً أن المقاومة فوتت حتى الآن الفرصة على العدو لتحقيق هذا الهدف. والعدو يكذب حين يعلن عن أن هدف عملياته الأخيرة هو إعادة مستوطنيه إلى شمال فلسطين المحتلة فهذا الهدف لا يمكن تحقيقه من دون اجتياح الجنوب اللبناني كله والقضاء على قواعد الصواريخ وهذا ما قالته علناً إدارة بايدن في تعليق للناطق الرسمي باسمها يوم الجمعة الماضي.
إنَّ الهدف الحقيقي إذاً لنتنياهو وعصابة المتطرفين الدمويين حوله هو الخروج من مأزق غزة الاستراتيجي أولاً، وتسجيل نقاط تكتيكية مخابراتية لمصلحته ضد المقاومة اللبنانية ثانياً، وترسيخ غَلبة انتخابية له ولحزبه أمام مجتمع استيطاني مسعور ودموي ثالثاً. ولكن العدو، رغم نجاحه التكتيكي في توجيه ثلاث ضربات قاسية خلال ثلاثة أيام متوالية إلى الجبهة اللبنانية، لم يخرج من المأزق الفلسطيني الغزاوي، ولم يخفف من قوة تهديد الجبهة اللبنانية التي ما تزال حتى هذه اللحظة تصليه بموجات من الصواريخ والقذائف والمسيرات قبل أن تأتي ضربتا حيفا عند منتصف ليل الأحد وقبل ساعات من تشييع الشهيد القائد إبراهيم عقيل ولم ينجح في جرها حتى الآن إلى الصدام والتصعيد فهي ما تزال تتحكم في مؤشرات التصعيد.
لقد كشفت الأيام العصيبة الثلاثة الماضية قوة وثبات بيئة المقاومة، ولكنها كشفت أيضاً عن ثقوب وخروقات أمنية خطرة أثارت الكثير من الأسئلة المُرة.
معطيات الضربة الجوابية المزدوجة
منتصف ليل الأحد، وقبل ساعات من تشييع الشهيد القائد إبراهيم عقيل، جاء رد المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله على شكل هجوم مزدوج ليكسر حالة «الإطباق الأمني» الصهيوني، وليرسخ معادلة الردع المتبادل والتعامل بالمثل نارياً، وليؤكد تحكم المقاومة بمؤشرات التصعيد، وكانت المشاركة العراقية واليمنية الرمزية في محلها ووقتها.
لقد تكرر يوم السبت في إعلام المقاومة اللبنانية، كـ»المنار»، مصطلح «الإطباق الأمني»، والذي نشأ بعد الضربات المخابراتية القاسية الثلاث خلال الأيام الماضية ولكن الضربتين الجوابيتين اللتين وجهتهما المقاومة إلى أهداف معادية نوعية وبعد 48 ساعة على الضربة الثالثة أكدت عدة معطيات، من أهمها:
1-إن الضربات الصهيونية العنيفة الثلاث والتي كانت ستؤدي تقديراً إلى انهيار دولة متوسطة الحجم، أدت إلى نشوء حالة إطباق أمني؛ ولكن الضربتين الجوابيتين فجر اليوم الأحد كسرتا هذه الحالة من الإطباق الأمني الصهيوني وما تبعها من حالة الانتشاء بالتفوق التكتيكي لدى جمهور وقيادات العدو ورفعتا الروح المعنوية الجماعية لجمهور ومقاتلي المقاومة في كل مكان.
2- إن الهجوم الأخير للمقاومة اللبنانية جاء سريعاً وفي عمق جديد داخل الكيان (على مسافة 46 كم من الحدود اللبنانية) وبعد 48 ساعة على الضربات الغادرة الضخمة ولم تشل نظام التحكم والسيطرة والتوجيه في قيادة المقاومة.
3- أكد الرد أن منظومة الحزب والمقاومة القيادية العليا سليمة من الاختراق كما رجح بعض الخبراء والمحللين، وأنها تمكنت من استعادة المبادرة بسرعة خارقة وتمكنت من تعويض خسائرها الكادرية سريعاً وأنها قادت عملية الرد بسلاسة ومهارة فائقة وما تزال تقاتل بذات السلاسة والعنفوان والكفاءة القيادية نفسها باعتراف خبراء العدو.
4-رسخت المقاومة معادلة التعامل الناري بالمثل والردع المتبادل التي حاول العدو أن يكسرها في اعتداءاته الإجرامية.
5-إن العمل الاستخباري التصويري بواسطة الهدهد لم يكن إعلامياً للتباهي فقط كما زعم العدو وأذياله في الإعلام العربي والغربي بل كان عملياتياً وأن المقاومة استخدمت هذا الجهد الاستخباري في هجومها.
6-إن قيادة المقاومة ما تزال تتحكم بمؤشرات التصعيد وفوتت الفرصة على العدو لدفع الوضع إلى الحرب الشاملة وتدمير لبنان فجاء اختيار الأهداف دقيقاً ومحسوباً ومنضبطاً وذا علاقة بجريمتي البيجرات واللاسلكيات ولم يتسبب الهجوم الجوابي بسقوط عدد كبير من قتلى أو جرحى العدو المدنيين وفوّت الفرصة على جنون العدو لجر الوضع إلى الحرب الشاملة.
7-إن فشل العدو في اعتراض العديد من صواريخ المقاومة على حيفا رغم أنه في حالة استنفار منذ ثلاثة أيام وقد أخلى المجال الجوي لشمال فلسطين المحتلة، يؤكد قدرة المقاومة على النَّيل من العدو وضربه ضربات مؤلمة فعلاً.
8-تزامن هجوم المقاومة اللبنانية مع هجوم بصاروخ قادم من اليمن وبمسيرتين قادمتين من العراق وقد اعترف العدو بالجهة التي جاءت المسيرتان منها وزعم أنه أسقطهما وقد أكد هذا الهجوم استمرار التنسيق بين فصائل المقاومة والتصدي الفلسطينية واللبنانية واليمنية والعراقية للعدوان الصهيوأميركي الإبادي الذي تشارك فيه أميركا عملياً ويتفرج عليه العالم أجمع ومنه دول التبعية والفساد العربية.
تدفيع الصناعة الغربية ثمن مجزرة البيجرات
معروف أن أجهزة البيجرات والووكي توكي ومختلف أنواع الهواتف الذكية والاتصالات الحديثة هي صناعة غربية أو حليفة للغرب الموالي للغرب الإمبريالي، وأن هذه الأجهزة هي بطبيعتها أجهزة مدنية سلمية ولكن العدو حوَّلها إلى أسلحة ومتفجرات قاتلة.
وهذا المعنى أكده الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بعد المجزرة مباشرة، حين طالب بـ»وجوب ألا تتحول الأجهزة ذات الاستخدام المدني إلى أسلحة». لقد استغل العدو هذه الأجهزة للقيام بمجزرة دموية ضخمة سقط من جرائها العشرات من الشهداء وآلاف الجرحى، ولم يصدر عن الدول الغربية رد يتناسب مع حجم المجزرة وضخامة التجاوز الصهيوني سوى ردود يتيمة وخجولة منها رد من نائبة رئيس الوزراء البلجيكية بيترا دي سوتر التي أعربت عن إدانتها للهجوم «الإرهابي» الهائل في ولبنان، والذي أدى إلى إصابة الآلاف جراء تفجير أجهزة الاتصالات اللاسلكية «البيجر»، مطالبة بإجراء تحقيق دولي في الهجوم وإنهاء سفك الدماء. كما أكد مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك الأربعاء أنّه «يجب محاسبة» المسؤولين عن هذا الفعل. وأخيراً فقد أدلى جوزيف بوريل، الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي، بتصريح تبريري قال فيه: «حتى إذا كان يبدو أن الهجمات موجهة، فإنها خلفت أضراراً جانبية ثقيلة وعشوائية بين المدنيين، بما فيهم الأطفال الذين كانوا بين الضحايا ولا أستطيع إلا أن أدين هذه الهجمات التي تعرض الأمن والاستقرار في لبنان للخطر وتفاقم من خطورة التصعيد في المنطقة».
وعلى هذا وفي سياقه ينبغي الارتقاء بالرد الشعبي – أما الرد الرسمي العربي والإسلامي فميئوس منه في الوقت الحاضر على الأقل- على هذا الموقف الغربي الممالئ للعدوان الصهيوني، أو المشارك فيه فعلياً وخصوصاً من قبل مربع الشر التقليدي؛ الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا. وينبغي أن يكون هذا الارتقاء بالرد الشعبي عبر الدعوة الواسعة والمنظمة والتدريجية إلى مقاطعة المنتجات التكنولوجية الحديثة وخاصة أدوات التواصل والاتصالات والإدارة، وتوسيع هذه المقاطعة لتشمل جميع المنتجات الزراعية كالمواد الغذائية التي قد لا يتردد العدو عن تسميمها وتحويلها إلى سلاح إبادة هي الأخرى والسلع والمنتجات الصناعية الغربية والاستعاضة عنها بالبدائل الشرقية من الصين وروسيا مؤقتاً، وتشجيع التصنيع أو التجميع المحلي الآمن في بلداننا لهذه السلع والأدوات والبضائع.
إن هذه الدعوة إلى المقاطعة الشاملة للصناعات الرقمية الحديثة الغربية تنطلق من: أولاً شرعية حالة الدفاع عن النفس في وجه متطرفين عنصريين صهاينة يستغلون هذه الصناعات المدنية السلمية للقيام بحرب إبادية ضد العرب وقد لا يتورعون مستقبلاً عن تفخيخ أجهزة ومصنوعات أخرى كالتلفزيونات والثلاجات والسيارات…إلخ. وتنطلق، ثانياً، من ضرورة تدفيع العدو وحلفائه الغربيين ثمن جرائمهم في الميدان الاقتصادي التجاري وهو أمر شديد الوطأة على الرأسماليين الغربيين خصوصاً. ليست لديَّ أية أوهام حول الاستجابة لهذه الدعوة وتفعيلها في الوقت الحاضر، ولكن مجرد إطلاق الدعوة وتوسيع نطاقها إعلامياً من قبل الأقلام المقاوِمة وفي أوساط جمهور المقاومة للعدوان الصهيوني الغربي قد يجعل لها تأثيرها المتنامي.