الديموغرافيا كمحدِّد لمستقبل النظام الانتخابي الأميركي
علي مراد – وما يسطرون|
شهدت الولايات المتحدة خلال العقود الأخيرة تحوّلات ديموغرافية عميقة انعكست بوضوح في نتائج إحصاء السكان الصادر عام 2020. هذه التحولات لم تكن مجرد تغييرات في عدد السكان، بل كانت مؤشراً إلى إعادة توزيع القوة السياسية بين الولايات، ما أدى إلى إعادة صياغة المجمع الانتخابي الذي يحدّد مصير الانتخابات الرئاسية الأميركية.
وفقاً لبيانات إحصاء 2020 السكّاني، بلغ عدد سكان الولايات المتحدة حوالي 331 مليون نسمة، بزيادة قدرها 7.4% مقارنة بتعداد العقد السابق الصادر عام 2010، وهو أقل معدّل نمو منذ ثلاثينيات القرن الماضي. ينص القانون الأميركي على إعادة رسم السلطات المحلية لكل الولايات حدود مقاطعاتها مع بداية كل عقد، بناءً على بيانات الإحصاء السكاني العام. نتيجة لهذا الإحصاء، سيتغيّر عدد مقاعد مجلس النواب، وبالتالي أصوات المجمع الانتخابي، في عدة ولايات. على سبيل المثال، حصلت ولاية تكساس على مقعدين إضافيين، ما رفع إجمالي أصواتها الانتخابية إلى 40 صوتاً، وهو ثاني أعلى عدد بعد كاليفورنيا. كما حصلت فلوريدا على مقعد إضافي، ليصبح مجموع أصواتها 30 صوتاً، وكذلك كولورادو ومونتانا ونورث كارولاينا وأوهايو وأوريغون. في المقابل، فقدت كلّ من ولايات نيويورك، وكاليفورنيا، وإلينوي وميشيغان وبنسيلفانيا وويست فرجينيا مقعداً واحداً من حصصها في المجمع الانتخابي. في المحصّلة، في انتخابات 2024 الرئاسية، سيكسب الجمهوريون 4 مقاعد إضافية في المجمع الانتخابي، ويخسر الديمقراطيون مقعداً واحداً (دون احتساب الولايات المتأرجحة). صحيح أنّ هذا التغيّر قد لا يكون مؤثّراً في الانتخابات الرئاسية القادمة، لكنّ التحوّل في تركيبة وتوزّع حصص الولايات في المجمع الانتخابي، يؤثّر على النفوذ السياسي للولايات، ومن شأنه أن يجبر الحزبَين الديمقراطي والجمهوري على تعديل سياساتهما ربطاً بهذا التحوّل.
تعدَّدت الأسباب التي أدّت إلى هذه التغيّرات، التي من بينها الهجرة الداخلية، حيث تُظهِر الأرقام أنّ الولايات الجنوبية والغربية، مثل تكساس وفلوريدا ومونتانا وأوريغون، استفادت من حركة الهجرة الداخلية بشكل كبير. وفقاً لتقرير صادر عن «معهد بروكينغز»، شهدت تكساس وحدها زيادة سكانية بلغت 4 ملايين نسمة بين عامي 2010 و2020. يأتي هذا النمو نتيجة لعدة عوامل، منها توفّر فرص العمل، وانخفاض تكاليف المعيشة، والسياسات الضريبية المحدودة مقارنة بالولايات الشمالية وولاية كاليفورنيا. ومن أسباب التغيّرات الحاصلة، التحولات العرقية والإثنية، حيث يشير أحد تقارير «مركز PEW للأبحاث» إلى أنّ الأقليات العرقية، وخاصة اللاتينيين والآسيويين، ساهموا بشكل كبير في زيادة عدد السكان في الولايات الرئيسية. في تكساس مثلاً، أصبح السكان من أصول لاتينية يشكّلون حوالي 40.2% من إجمالي السكان في الولاية، متجاوزين عدد السكان البيض غير اللاتينيين البالغة نسبتهم 39.8% من إجمالي سكان الولاية. هذا النمو في أعداد الأقليات العرقية قد يعيد تشكيل الخريطة الانتخابية ويزيد من تأثير هذه المجموعات في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
تشير البيانات إلى أن معظم النمو السكاني يحدث في المناطق الحضرية الكبرى، فيما تشهد المناطق الريفية تراجعاً
وتشير البيانات إلى أن معظم النمو السكاني يحدث في المناطق الحضرية الكبرى، في ما تشهد المناطق الريفية تراجعاً في عدد السكّان. وفقاً لتقرير لـ«معهد بروكينغز»، فإن 86% من سكان الولايات المتحدة يعيشون الآن في المناطق الحضرية، ما يعزّز قوة الولايات الحضرية على حساب الولايات الريفية في السياسة الأميركية. لكنّ التغيُّر الديموغرافي لا يعني فقط تغيُّرات في عدد مقاعد نواب الكونغرس وحصص مندوبي المجمع الانتخابي، بل له تأثيراته الأعمق على مستقبل السياسة الأميركية. الواقع يشير إلى أنّ الولايات التي شهدت نمواً ديموغرافياً، مثل تكساس وفلوريدا، قد تصبح أكثر تنافسية بين الحزبَين الرئيسيين. على سبيل المثال، أظهرت الانتخابات الرئاسية لعام 2020 تحوُّلاً واضحاً في ولايات مثل جورجيا وأريزونا، التي كان يُعتقَد بأنّها معاقل جمهورية، لكنها أصبحت أكثر ميلاً للديمقراطيين بفضل زيادة أعداد الناخبين من الأقليات العرقية والشباب.
وبحسب تقرير صادر عن معهد البحوث والسياسات الاجتماعية والاقتصادية في جامعة كولومبيا، قد تؤدي هذه التغيُّرات الديموغرافية إلى «تحول ديمقراطي دائم» في الولايات التي كانت تقليدياً جمهورية، خاصة إذا استمرّت الهجرة الداخلية، ونمو الأقليات العرقية بمعدلاته الحالية. لكن هذه التحوّلات ليست مضمونة، حيث تعتمد على مدى قدرة الحزبَين على جذب الناخبين الجُدد وتلبية احتياجاتهم. على سبيل المثال، قد يضطر الحزبان إلى تعزيز جهودهما لجذب الناخبين من أصول لاتينية وآسيوية، الذين أصبحوا يمثّلون جزءاً كبيراً من قاعدة الناخبين في الولايات المتغيّرة ديموغرافياً. إضافةً إلى ذلك، قد تتحوّل ولاية مثل تكساس إلى ولاية متأرجحة رئيسية في الانتخابات المقبلة، ما قد يغيّر موازين القوى السياسية في أميركا، نظراً إلى حجم حصّتها الكبير في المجمع الانتخابي. مع استمرار النمو السكاني في الولايات الجنوبية والغربية وتزايد تأثير الأقليات العرقية، قد يشهد المشهد السياسي الأميركي تحولات جذرية في العقد المقبل، ما يفتح المجال أمام سيناريوهات جديدة وغير متوقّعة.