هل الاحتفال بمولد النبي بدعة؟ من يروج لهذه الفكرة: كفار الأمس أم اليوم؟ التاريخ يتحدث وصنعاء تجيب

محمد بن عامر – وما يسطرون –   المساء برس|

في كلّ عام، تتزين عاصمة اليمن المدينة العتيقة صنعاء، وسائر مدنها الباسقة بالحلة الخضراء، بمناسبة استقبال شهر ربيع الأول؛ الشهر الذي يحمل في طياته ذكرى عظيمة في تاريخنا الإسلامية، ذكرى ميلاد النبي الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، الذكرى السنوية التي تمثل قيمة خاصة بالنسبة للشعب اليمني، الذي ينفرد عن غيره من الشعوب الإسلامية بتجليات الاحتفالات المتنوعة والمتجددة، والمعبرة عن حب هذا الشعب الأصيل للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

هوية واعتزاز

على مدار الأيام المقدسة في هذه المناسبة العظيمة، ترتفع الأصوات في صنعاء والمدن اليمنية الأخرى بقراءة المدائح النبوية والأناشيد الروحية، في حين تُضاء وتتزين الشوارع والمنازل والمحال التجارية والساحات بالأعلام والزخارف الخضراء، وأيضًا تُقام الندوات والفعاليات الدينية والثقافية التي تضيء جوانب من سيرة النبي الكريم، وتجدّد البيعة له، في مشهد يعكس هوية اليمنيين التي قامت من أجلها الثورة التحررية، في الحادي والعشرين من سبتمبر التي لم تكن من أجل السيادة أو الأرض فقط بل كانت ثورة لطرد الطغاة وأعداء الإسلام من البلاد وإرجاعها لأمة خاتم الأنبياء.

إن هذا الاحتفاء الصادق بذكرى مولد الحبيب المصطفى في اليمن إنما هو امتداد لتاريخ عريق من التفاني في خدمة الإسلام والذود عنه، ومازال الشعب اليمني على هذا النهج، محافظاً على هذه التقاليد الراسخة التي تجسد محبة الرسول الأعظم في وجدانه وسلوكه.

إرث اليمن المقاوم

تاريخ اليمن، كما ترويه الأجيال، هو تاريخ شعب عانى من ظلم الطغاة، وقاوم ببسالة المؤامرات الخبيثة والمحاولات الماكرة لزرع الفتن، ومباركة الانحلال الأخلاقي، ونشر الرذيلة والفاحشة، وصحافة الجنس، مضحيًا مناضلاً من أجل التمسك بالتعليمات الربانية، والتمسك بالرسالة المحمدية والمبادئ الإسلامية، والفطرة الإنسانية السوية، حتى حقق أولى انتصاراته؛ الانتصار الذي أنجب ثورة الـ21 من سبتمبر المجيدة، والتي جسدت طموح الشعب اليمني في استعادة هويته الأصيلة، هوية تتجاوز الحدود الجغرافية لتستلهم المبادئ السامية التي جاء بها النبي محمد، والتي تشكل الأساس لكل تقدم ورقي.

إن اليمن يتميز باحتفائه الفريد بالمولد النبوي، والذي يعكس روح المحبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وتقديساً لرسالته، وإيمانًا بأن مولد النبي هو مولد عهد جديد للإنسانية، عهدٌ يحمل الأمل والعدل والرحمة. وما يميز احتفال اليمن بهذه الذكرى المباركة هي العلاقة الجدلية بين الذكرى والممارسة، فلا يقتصر الأمر على مظاهر الاحتفال الخارجية من زينة وأعلام وإضاءة الشوارع، بل يتجاوز ذلك إلى تطبيق شريعة النبي الكريم في واقع الحياة، ونشر رسالته السماوية بكل ما تحمله من سلام وعدل وإحسان على المستوى الفردي والجماعي، الشعبي والرسمي.

البدعة الحقيقية

ومع كل هذا البهاء، تظهر بعض الأصوات النشاز التي تنكر الاحتفال بهذه المناسبة وتسميه بدعة! ولكن، أليس من الغريب حقًا أن يُعتبر الاحتفال بميلاد من أُرسل رحمةً للعالمين بدعة؟ أليس الاحتفال بمولد النبي تجسيدًا للاحتفاء بالرسالة السماوية والأخلاق الفاضلة التي جاء بها؟

وألا نرى، أن تلك الأصوات المُنكرة تشبه أصوات كفار قريش الذين وصفوا احتفال الأنصار في يثرب بقدوم النبي محمد عليه الصلاة والسلام بالبدعة، مدعين أنهم لم يألفوا مثل هذا الاحتفال في تقاليدهم العربية؟ ولم يكن رسول الله لينكر على قومه فرحتهم، بل شاركهم السرور والابتهاج، على عكس ما يحاول ترويجه كفار الماضي والحاضر.

أما البدعة الحقيقية، يا سادة، فتكمن في الانحراف عن جوهر الإسلام، دين السلام والرحمة والعدل، وفي خيانة المبادئ السامية التي نادى بها الإسلام، وفي أن نعلن الجهاد في بلاد المسلمين، ونشعل الفتن والحروب فيما بينهم، بينما نغض الطرف عن معاناة إخواننا في فلسطين، ونتركهم فريسة للاحتلال الغاشم. فكيف لمن يدعي اتباعه أن يصمت عن الظلم والعدوان؟ أين هم من قوله تعالى: “وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ”؟ أين غابت عنهم غيرة النبي على أمته، ودفاعه عن المظلومين والمستضعفين؟

أليس الأجدر بنا في ظل هذه الفتن التي تعصف بأمتنا، من حروب وصراعات طائفية، أن نستلهم من سيرة النبي دروس الوحدة والتسامح، بدلاً من أن نتخذها ذريعة للفرقة والتناحر؟ ألم يقل الله تعالى: “وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا”؟ فكيف لنا أن نعتصم بحبل الله إذا كنا نبتدع في الدين ما ليس منه، ونفرق الصفوف بدل أن نوحدها؟ ألا يكون الاحتفال بالمولد النبوي هو فرصة للتزود من معين النبوة الصافي، وللتأمل في سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام، تلك السيرة التي كانت ولا تزال منارةً تهدي الحائرين، وبلسماً يشفي جراح المكلومين.

الاحتفال بالحق

نقول لهؤلاء: أفيقوا من غفلتكم، وانظروا إلى حقيقة البدع من حولكم. إن البدعة تكمن في التقاعس عن نصرة المظلومين، وإذكاء نيران الفتنة بين الأشقاء، والسكوت على الظلم والطغيان، وإحلال المحرمات ونشر الرذيلة والانحلال الأخلاقي. أما الاحتفال بذكرى مولد النور، فهو إحياءٌ لذكرى من جاء بالرحمة للعالمين، وتذكيرٌ بغاية وجود البشرية التي خلقنا لأجل تحقيقها، وتذكيرٌ بما علينا كمسلمين أن نحمل راية الإسلام، والحفاظ على ديننا وثقافتنا وهويتنا التي يحاول البعض أن يسلخونا عنها، في ظل زمن العولمة ومع انتشار ثقافة الانفتاح التي تروج للسلوكيات الهدامة وتمييع القيم.

ختامًا .. طوبى لمن احتفل بمولد النبي على بصيرة، متأملاً في سيرته، مقتدياً بهديه، عاملاً على نشر قيمه النبيلة؛ فهذا هو الاحتفال الحق، الذي يحيي القلوب، ويوقظ الضمائر، ويجمع الشمل، ويوحد الصفوف.

وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

من حائط الكاتب على منصة “أكس”

قد يعجبك ايضا