الجمهور العربي في زمن الإبادة
بدر الإبراهيم – وما يسطرون|
في ظل سعار إسرائيلي/غربي غير مسبوق، متوَّجٍ بممارسة الإبادة الجماعية في غزة، يظل السؤال قائماً حول دور الجمهور العربي، وغيابه الملحوظ عن التحرك في مواجهة الإبادة. يمكن بسهولة ملاحظة الفرق في تفاعل هذا الجمهور أيام الانتفاضة الثانية، واقتحام مخيم جنين 2002، وحرب تموز 2006، وحرب غزة 2008، وبين رد فعله على وحشية وإجرام صهيونيَّين فاقا كل ما سبق، وبدعم غربي صارخ. لم يعد حتى التعبير عن الغضب يحصل بشكل كافٍ، فضلاً عن محاولة التأثير في الوقائع وتغييرها. في جولة على مواقع التواصل الاجتماعي، يمكن أن تتلمس الغضب والحزن، ولكنهما ممزوجان بالإحباط والعجز، اللذين يشكلان عنوان المرحلة عربياً.
أول ما يتبادر إلى الذهن في محاولة تفسير رد فعل الجمهور العربي هو تراكم الإحباطات، مع اختلاف درجتها من بقعة جغرافية إلى أخرى، إذ يختلط الإحباط في بعض الحالات بالإنهاك من ويلات الحروب الأهلية، وجحيم الأوضاع الاقتصادية، منتجاً عجزاً واضحاً عن إطلاق صوت احتجاجي على ما يحدث في غزة، أو تشكيل ضغط يسهم في محاولة وقف الحرب على أهلها، أو حتى إنقاذهم من الموت جوعاً. الحماسة للتغيير التي تنتهي إلى حالة أسوأ من قبل، تتحول غالباً إلى انهيار ويأس، يعززان الكفر بالعمل للتغيير وبوسائله، ومنها المظاهرات الاحتجاجية، خاصة إذا استشرست السلطات في معاقبة كل من سولت له نفسه التفكير في التغيير في لحظة من اللحظات.
لكن المسألة لا تتعلق هنا بالأفراد وشعورهم وحسب، بل بشكل أساسي بالتنظيمات التي عادةً ما تنسّق تحركات احتجاجية. هذه التنظيمات تم تجريفها بفعل بطش السلطات، والحديث هنا عن اتحادات الطلبة في الجامعات، والنقابات العمالية، والجمعيات المهنية، والأحزاب السياسية. هذه التنظيمات إما تم تفريغها من أي بعد سياسي، أو إنهاء وجودها، أو تدجينها لتكون بتصرّف النظام السياسي وتحت سقفه، كما هو الحال مع معظم الأحزاب العربية التي بقيت في المشهد.
أمّا الأنظمة السياسية العربية، فهي ليست مهتمّة بتفريغ غضب الناس عبر تركهم يهتفون في الشوارع كما كان يحصل سابقاً، إذ إن خوفها من مآلات إعطاء نافذة صغيرة للتعبير عن الاحتجاج يجعلها ترفض مبدأ الاحتجاج نفسه، خاصة بعد تجربة العقد الأخير، كما أنها باتت مقتنعة بأن القبضة الأمنية الحديدية وحدها قادرة على تأمين الحماية للسلطة من أي خطر احتجاجي.
في المحصلة، يغيب الجمهور العربي عن ساحة الفعل والحركة حتى في دول تسمح بالاحتجاج والتظاهر (لا بد من الإشارة إلى استثناء يمني مذهل في صبره والتزامه رغم كل الظروف)، ويتم التعبير عن العجز بطرق مختلفة، أحدها تراشق الاتهامات بالتقصير والمزايدات بين جماعاتٍ من أقطار مختلفة، وتتداخل هنا أحقاد الاحتراب الأهلي العربي مع تعبيرات طائفية.
هناك حالات أخرى يدفعها العجز إلى الابتعاد عن الواقع، والغرق في مشاغل الحياة اليومية، أو الاهتمامات الترفيهية المدعومة رسمياً، والتي تلعب دوراً في تخفيف احتقان الناس بشأن ما يحدث في غزة، وإبعاد أنظارهم عنها. في حالة أخطر، يدفع العجز البعض إلى الانسياق خلف الدعايات الانعزالية الموجهة التي تُحمِّل الفلسطينيين مسؤولية ما يجري لهم، وترفض أن يكون للإنسان العربي أي دور أو مسؤولية تجاههم، وتحثه على التركيز على نفسه وبلده والانشغال بالتنمية، والاحتفال بصورة المستقبل المشرق المرسومة بأدوات الذكاء الاصطناعي.
تعمل إسرائيل عبر التدمير الوحشي الممنهج لغزة على ردع كل عربي يفكر في مواجهتها وتحديها، فيما يعمل الإعلام العربي المؤيد للغرب الاستعماري على تعزيز الانعزالية والهويات القُطريّة المتمحورة أساساً حول التمسك بنمط الحياة الغربي، لذلك يستنفر وجوه هذا الإعلام للدفاع حتى عن المطاعم والمقاهي الغربية المؤيدة للصهيونية في وجه حملات مقاطعتها، ولكن هذه الحالة تمثل أقليةً ذات صوتٍ عالٍ، ولا تعبّر عن القطاع الأوسع من الجمهور حتى الآن.
وسط هذا المشهد من الإحباط والعجز، تبرز نقطة مضيئة تتمثّل في إعادة الاعتبار لأولوية العداء والمواجهة مع الصهيونية والغرب الاستعماري عند شريحة واسعة من الجمهور العربي، بعد سنوات من الغوص في وحول الصراعات الداخلية، ويبرز في هذه المرحلة التخفف من دوافع طائفية للشقاق. يمكن البناء على هذا الأمر في معركة الوعي والذاكرة، بالإصرار على التناقض الرئيسي مع الغرب الاستعماري، وتحويل التناقضات الأخرى إلى ثانوية، ورفض القُطريّة الانعزالية والتخلي عن القضية الفلسطينية، وفي هذا الأمر بالذات، تساعد إسرائيل والغرب الاستعماري في توضيح وحدة المصير العربي، إذ لا تفرّق إسرائيل بين عربي وآخر، فهي تعتدي عليهم جميعاً، فيما يراهم الغرب الاستعماري صنفاً أدنى من البشر، ليس لهم سوى الخضوع لمشيئته.