نتنياهو والمفارقة الإنجيليّة
ميشال نوفل – وما يسطرون|
يتميّز التحالف بين اليمين الإسرائيلي والبيئة الأميركيّة الأصوليّة للمسيحيّين الصهيونيّين بتاريخ طويل موازٍ للصداقة التي نسجها بنيامين نتنياهو مع الداعية الإنجيلي الشهير جيري فالويل منذ عودة حزب «الليكود» إلى السلطة في إسرائيل عام 1977. وقد تزامنت هذه الصداقة الممتدّة حتى وفاة الداعية الإنجيلي عام 2007، مع التقارب بين «الليكود» والإنجيليّين الأميركيّين طوال 30 سنة.وليس غريباً أن تسجّل ولاية الرئيس دونالد ترامب التغلغل الأكبر للمسيحيّين الصهيونيّين في الإدارة الأميركيّة، إذ شهدت نقل السفارة الأميركيّة من تل أبيب إلى القدس في 6 كانون الأول/ديسمبر2017، وكسر الإجماع الدولي على عدم شرعية الاستيطان اليهودي في الضفّة الغربيّة المحتلة، والدفع بإستراتيجيّة التطبيع بين إسرائيل ودول عربيّة في الخليج زائد السودان والمغرب.
واللافت للنظر أنّ الرئيس جو بايدن الذي وصل إلى السلطة في تشرين الثاني/نوفمبر 2020، لم يفعل الكثير لمواجهة الانحراف الترامبي عن الخط التقليدي للسياسة الأميركيّة في منطقة الشرق الأوسط، بما في ذلك تعطيل تسوية الاتفاق النووي مع إيران في 8 أيار/مايو 2018، مثلما لم تكن لديه القدرة على الحدّ من سلطة المسيحيّين الصهيونيّين، خصوصاً في الكونغرس، على افتراض أنّه يريد ذلك وهذا أمر مشكوك فيه بسبب مجاهرته بأنّه صهيوني ومسيحي.
مَنْ هم هؤلاء المسيحيّون الإنجيليّون الذين كانوا يُعتبرون السند الشعبي الرئيسي لدونالد ترامب؟
«مسيحيّون متّحدون من أجل إسرائيل» هو اللوبي المؤيّد لإسرائيل التابع للمسيحيّين الصهيونيّين، والذي يقوده القس جون هاغي. ويضمّ هذا اللوبي نحو 10 ملايين عضو، أي ما يعادل ضعف الطائفة اليهوديّة في الولايات المتحدة (نحو 5 ملايين). وهذه المفارقة التقط أهميتها نتنياهو الذي نُقل عنه في «الموند ديبلوماتيك» قوله في جلسة خاصة في شباط/فبراير 2024 أنّه «ما دام هناك إسناد من المسيحيّين الإنجيليّين في أميركا، وهم يتجاوزون كثيراً اليهود عدديّاً بل حتى أكثر اليهود الأرثوذكس، فإنّ كلّ شيء جيّد في الوضع بالنسبة إليه».
ويستعين المُنظِّر الجيوسياسي إيمانويل تود في كتابه «هزيمة الغرب» بمؤلف «الدِّين السيئ» لروس دوثات، ليوضح أن الإنجيليّة بدعة لا علاقة حقيقيّة لها بالبروتستانتيّة الكلاسيكيّة حيث تفرض التعاليم الكالفينيّة واللوتريّة قواعد صارمة للإنسان تُلزمه باتِّباع أخلاقيّة اقتصاديّة واجتماعيّة من شأنها أن تقود حسب عالم الاجتماع ماكس فيبر إلى مفهوم التقدّم والرأسمالية. والحقيقة أنّ للمسيحيّين الإنجيليّين قراءة خاصة للتوراة مفادها الاعتقاد بأنّ اجتماع جميع اليهود في إسرائيل، حيث يستعيدون استقلالهم الذاتي سياسيّاً ويعيدون بناء الهيكل، يمثّل الشرط الأساسي المُسبق لقيام مملكة الله، وأنّ عليهم واجب العمل لتسريع هذا الحدث ما يجعلهم ناشطين صهيونيّين.
ويلاحظ إيمانويل تود أنّ الطفرة الإنجيليّة في السبعينيات من القرن العشرين، إذا كانت أتاحت لبعض دُعاتها كسب الكثير من المال، فإنّها حملت بالأخص عناصر نكوص وتراجع: قراءة حرفيّة للتوراة، وذهنيّة معادية للعلم إجمالاً، ونرجسيّة مرضيّة… وقد وصلت هذه الظاهرة إلى همود كقوّة سياسيّة أوائل التسعينيات، وذلك وسط حالة من الفراغ الفكري وغياب تداول الأفكار في المجتمع الأميركي، مع هواجس مترسّبة تتعلق بالمال والسُلطة ولا يمكن أن تمثّل قيماً في ذاتها أو أهدافاً. وينطوي هذا الفراغ على نزوعٍ نحو التدمير الذاتي، أو النزعة العسكريّة، أو السلبيّة العميقة، بالمحصّلة يقود هذا الفراغ إلى العدميّة التي لا تعكس حاجة إلى تدمير الذات والآخرين فحسب، بل رفض الاعتراف بالواقع عندما تتحوّل إلى نوع من الدِّين.
ويُظهر التحليل الجيوسياسي للسمات الأساسيّة لأزمة الغرب، الزوال الكامل للركيزة المسيحيّة، وهي ظاهرة تاريخيّة خطيرة تفسِّر تشظّي الطبقة الحاكمة الأميركيّة، واحتضار البروتستانتية التي أسهمت إلى حدٍّ كبير في بناء القوّة الاقتصادية للغرب. أمّا طريقة تحديد عملية تراجع الدِّين إلى حالة الصفر، فهي تقوم على مراقبة تفكُّك وظيفة القيم الدينيّة التي تنظم الحياة الاجتماعيّة، والأخلاق، والعمل الجماعي.
ومن المفيد هنا الإشارة إلى أنّ البروتستانتيّة تنطوي على عناصر تبدو في آنٍ قويّة جداً ومتناقضة بشدّة: تفرض أن تكون الجماهير متعلّمة لأنّه يتعيّن على المؤمنين أن يصِلوا إلى الكتب المقدسة، وهو الأمر الذي يفسّر تقدّم الدول التي خضعت لحركة الإصلاح الديني في أوروبا ليس في حقل التعليم فحسب، بل في مجال النهوض الاقتصادي حيث الأخلاقيّة المهنيّة تعني أنّ البشر وُجدوا على الأرض لكي يعملوا ويوفّروا، وهذا قاسم مشترك للدول البروتستانتيّة التي نجحت كلها اقتصاديّاً.
ثمّة عوامل عدّة حجبت لمدة طويلة ضمور البروتستانتيّة في الولايات المتحدة، يتقدّمها معدّلات ممارسة دينيّة أعلى من أوروبا لم تلبث دراسات تفصيليّة أن كشفت أنّ أرقام هذه المعدّلات لم تكن دقيقة، ثمّ الطفرة الإنجيليّة في السبعينيات من القرن العشرين التي لم تلبث أن بلغت الاستقرار أوائل التسعينيات، وهي في أيّ حال لا تمتّ بصلة حقيقيّة إلى البروتستانتيّة الكلاسيكيّة.
وتبقى حالة الصفر البروتستانتيّة محكومة بديناميكيّة خاصة تؤدي إلى العدميّة التي تقود بدورها إلى رفض الاعتراف بالواقع، مثلما يفعل أنصاف المثقفين القابضين على آليات السلطة في واشنطن عقب اختفاء نخبة السلطة المسماة Wasp (الأميركيّون البِيض والأنغلوساكسون والبروتستانت) في مناخ يفتقد الأخلاقية والروحيّة المشتركة لمجموعة قيادية. وكانت هذه النخبة في الماضي ترسم اتجاهاً وأهدافاً أخلاقية سواء جيّدة أو سيّئة، في حين أن المجموعة القيادية الحالية لا تقترح شيئاً من هذا القبيل ولا يحرّكها سوى ديناميكيّة للسلطة الصافية التي تعكس في الخارج أفضليّة للقوّة العسكريّة والحرب.