هل تنتهي إسرائيل لوحدها؟
موسى السادة – وما يسطرون|
ليس هناك جدال على حدة الانقسام الداخلي في المستعمرة الصهيونية، بل إن التاريخ يخبرنا أن كل مشروع استعماري استيطاني يولد وفي داخله فتيل شقاق داخلي. وما تقوم عملية استمرار هذا المشروع، بأحد أشكالها، إلا على إدارة مجتمع المستوطنين لتناقضاتهم من جهة، وديمومة تملكهم لفائض قوة كافٍ من جهة أخرى، وتحديداً على المستويين الاقتصادي والأمني.
ويصل الأمر إلى قراءة الانقسام الأميركي الحاد اليوم، في عمقه، كأحد أكبر امتدادات انقسام الكتلة الاستيطانية البيضاء، حتى بعد أكثر من قرنين على استعمار القارة، ولعله من المفيد مشاهدة المؤتمرين الوطنيين الديمقراطي والجمهوري قبل أسابيع بهذه العدسة.ينطلق هذا التحليل من قراءة عامة للنماذج والمشاريع الاستعمارية الاستيطانية، إلا أنه وبطبيعة الحال، لكل مشروع ظروفه وطبيعته الخاصة، خصوصاً المشروع الصهيوني دون غيره. فهو بأبعاد متعددة، يشكّل حالة فريدة عن كل المشاريع التي سبقته، بدءاً من عملية تجميع وخلق مجتمع استيطاني من مختلف بقاع الأرض، وصولاً إلى أنه يمثّل خلاصة المشاريع الغربية التي سبقته والمرعيّ منها. ولكن، تبقى الفكرة الأساس أن فتيل الشقاق الداخلي لمجتمع المستوطنين ليس بعملية مجرّدة، وكأنّ هنالك عمراً افتراضياً للمشروع وتاريخاً للصلاحية، وحتمية مفترضة أنه ومع تحول الأجيال فهو يمرض ويموت من تلقاء نفسه. بل إن ما يشعل هذا الفتيل في الواقع لكي يموت في «عقدة الثمانين عاماً» أو ليستمر لأكثر من قرنين، هي عوامل خارجية، أساسها مقاومة الشعب المستعمَر له.
بمعنى، إن أي نوع من الانتظارية لنهاية المشروع بنفسه من دون تصادم متصاعد ومستمر وبنيّة القتل والإزالة، سيصطدم بأن لهذا المشروع ومجتمع مستوطنيه قابلية عالية لإعادة تأهيل نفسه، وإدارة تناقضاته مهما بدت حادّة، طالما استتبّ عاملان متداخلان: الاقتصادي والأمني. يخص هذا الأمر كيان العدو تحديداً، فهو لخصوصيته يعيش مفارقة كبيرة؛ فمن جهة هو أكثر المشاريع هشاشة في البنية الاجتماعية والديموغرافية، متكوّن في أساسه من شتات مجتمعات وشعوب مختلفة ومتنوعة تربطها رابطة ضعيفة في ذاتها. ولكن، وفي الوقت نفسه، هو مجتمع استيطاني يتمتع بوجود كتلة سياسية واقتصادية خارجه مستثمرة فيه وحريصة عليه، أي الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة الأميركية. أي، بتعبير آخر، كما يواجه هذا الكيان ضربات المقاومات العربية بشكل يعمل على تهديد بنيته التحتية الاجتماعية والمادية وعليه زيادة فتيل تناقضاته الداخلية، فهناك في الوقت نفسه عامل موضوعي جادّ بدوافع دينية واستراتيجية وبموارد اقتصادية ضخمة، من واشنطن إلى عواصم الخليج، تحرص على إدارة هذا الفتيل وحماية هذا الكيان، حتى من نفسه، ودعمه اقتصادياً ومعنوياً. ولعل من أهم عِبر هذه الحرب الجارية هو عدم الاستهانة بجديتهم في حمايته، واستعدادهم للذهاب بعيداً في ذلك.
خلاصة الفكرة أنه ومن دون اهتزاز حقيقي للبنية الأمنية والاقتصادية للكيان، فإن تشكيل التناقض السياسي والاجتماعي الداخلي قابل للإدارة. المستوطن لا يغادر سوى لسببين: خوفه على أمنه الشخصي وخسارته لامتيازه الاقتصادي (بقاء الأوروبيين في ناميبيا وجنوب أفريقيا مثال)، ونسبة المغادرين النافرين من الذائقة والشكل الأيديولوجي للدولة لن تمثل نهاية لمشروع المستعمرة. أمّا تفصيل الوضع في فلسطين، فستمثّل فيه الضفة الغربية مستقبلاً (بل وقد بدأ بالفعل) مجال تصفية وجني تناقضات العدو بين الصهيونية الدينية ونظيرتها العلمانية، المظلتين الكبيرتين لتشكيلة تناقضات العدو. في حين تقدّم الصهيونية الدينية اليوم أثماناً على أرض المعركة عبر نسبة من القتلى منتسبين إليها، فهي بدأت بالفعل في جني الثمار في القدس والضفة، وطالما أنها تتمكن من ذلك، أي السيطرة على تلال الضفة دونما مانع، فهذا يفتح مجالاً أسهل لإدارة الجانب الآخر من التناقض مع مستوطني الساحل وما يسمى «دولة تل أبيب»، على شكل الحكم والدولة والقضاء وغيرها.
إن المسألة ليست توهيناً لحجم الشّرخ الكبير داخل الكيان، ولكنه للإشارة إلى الضم العملي للضفة والنظرة الصهيونية المستقبلية لمزيج من التهجير القصري والدفع للهجرة الطوعية (بالتعاون مع الخليج والأردن) وحتى إضافة محسوبة لـ«الأقلية العربية»، ستمثل عاملاً سيساهم في إدارة الخلاف الصهيوني سواء بشكل داخلي أو من خلال الأب الأميركي الراعي لأبنائه المتصارعين. وعليه، فإن التحليل الانتظاري والكسل الاستراتيجي بأن الصهاينة والوضع الدولي والإقليمي القائم، كل ذلك يؤول إلى نهاية خطيرة جداً لإسرائيل.
ومسألة رحيل المستوطنين دونما تكسير لوضعهم الأمني والاقتصادي لا تعدو سوى افتراض متعسّف. فهناك مشروع فاعل جادّ للأنظمة العربية في تصفية القضية الفلسطينية والتطبيع أساسه السعودية في الإطار الإقليمي، وأمّا الدولي، والأميركي تحديداً، فلن يفرط الساسة الأميركيون والصهاينة والإنجيليون الأميركيون باستثماراتهم الدينية والاستراتيجية لمجرّد الحاجة المتكررة والمؤقتة إلى حشد الدفاع الجوي أو نشر عدة أساطيل في المتوسط وخليج عمان وبحر العرب (باستثناء سواحل اليمن).
ما يخبرنا إياه التاريخ هو أنه لم تنته مستعمرة استيطانية من تلقاء نفسها مهما بلغ الشقاق وحتى المناوشات العسكرية البينية. مسألة التفكيك والانتصار، وهي في صلب أدبياتنا، قوامها الاستعداد للتضحية بلا حدود. بعبارة أخرى، إن مشهد رحيل المستوطنين وسفرهم يستدعي العمل بنيّة قتل المستعمرة، واقتلاعها الفعلي من أرض فلسطين، وهذه الذهنية هي السبيل الوحيد للانتصار. وهذا تحديداً ما آمن به منظّرو «طوفان الأقصى»: أن علينا المبادرة بشجاعة وإيمان في برنامج عمل لا سقف له لإزالة إسرائيل، وإلا فهنالك جبهة عدو كبيرة وهائلة القوة مستعدة للعمل لحماية مشروعها، مهما طال الزمن، وطال الاستنزاف، ولا ترى في اختلال السيطرة على البيئة الاستراتيجية للعدو والتوتر الإقليمي مهما تصاعد سوى سيناريو تاريخي تكرر في عقود مضت ومن ثم تغيّر لصالحهم، وهذا ما علينا العمل لإثبات خطأ حساباتهم فيه.