عن الطوفان والخطاب الفلسطيني المطلوب
خالد إبراهيم – وما يسطرون|
بعد مرور أكثر من عشرة أشهر من العدوان الأميركي الصهيوني على قطاع غزّة، تغيّر فيها وجه العالم، واهتزت صورة الكيان الصهيوني عسكرياً واقتصادياً واجتماعياً. لقد أدركت البشرية، أكثر من أي وقت مضى، عنصرية المشروع الصهيوني وهمجيته وظهر جلياً الارتباط العضوي لهذا المشروع مع الإمبريالية بقيادة الولايات المتحدة، كما ظهرت التناقضات إلى السطح بين الطبقات الشعبية في مواجهة نظام عالمي مجرم لا يأبه إلا لمصالحه الاقتصادية والسياسية والعسكرية. ورغم كل هذا الدمار والقتل لا تزال جماهير غزة صامدة وشامخة، ولا زالت مقاومتها الباسلة تقاتل وتشكل رأس الحربة للتغيير الإستراتيجي القادم على المستويين العربي والعالمي. أمام هذا كلّه، لا بد أن نسأل عن طبيعة الخطاب السياسي المطلوب، فما كان يمكن احتماله من مواقف فلسطينية وفصائلية قبل السابع من أكتوبر لم يعد صالحاً بعد كل هذا الدمار وبعد التغير الذي يجري في ميزان القوى، وبعد الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني وكل هذه التضحيات.
لم يعد صالحاً، مثلاً، الحديث عن «وحدة وطنية» مع تيار أوسلو الذي أمعن بالخيانة والعمالة وقمع وملاحقة المناضلين. ولم يعد صالحاً أن نسمي محمود عباس بـ«السيد الرئيس» وترويج البعض لخطاب «الأخ أبو مازن» عن «الشهادة والنصر» أو إصدار تهليل وتبجيل بالموقف «المتقدم الذي دعا إليه سيادته». ولم يعد مقبولاً ما تسوّقه الأحزاب العربية من حجج ومبررات لوجودها داخل قبة الكنيست ومشاركتها في ما يسمى الحياة السياسية في هذا الكيان العنصري المسعور. لم يعد مقبولاً أن تبقى هذه السفارات الفلسطينية التي تمثّل نهج أوسلو ومفرزاته، وهي من تغتصب بالقوة تمثيل الفلسطيني في الخارج. ولم يعد يعنينا أن يخرج علينا أحد قادة الدول الصديقة أو الحليفة أو المعادية بخطاب حل الدولتين أو ما شابه من حلول تفيد العدو وتضر نضالات شعبنا الفلسطيني. لم يعد مقبولاً لنا كفلسطينيين، وكعرب، أن يأتي وزير خارجية دولة كبرى أو صغرى يملي علينا ما نفعل، أو أن يقوم أحد القادة الفلسطينيين بعقد ندوة مع بروفيسور صهيوني ويقوم باحتضانه وتقبيله تحت أي حجة أو ذريعة كانت.
لا يعنينا اليوم دعم حركة «حماس» أو «الجهاد» لأنها حركات إسلامية، ولا أن نقف مدافعين عن الجبهتين «الشعبية» و«الديمقراطية» لأنها «تمثل قوى اليسار الفلسطيني»، فما يعنينا بهذه الفصائل والحركات أنها حركات تحرّر وطني، تكبر بعين الشعب ويزداد حضورها مع زيادة فعالياتها العسكرية وقوتها الكفاحية وتأثيرها السياسي الاجتماعي ووضوح رؤيتها وقوة خطابها وصلابته في ما يتعلق بصراعنا مع العدوّ.
ولم يعد مقبولاً أيضا أن تذهب الفصائل إلى بكين أو غيرها من دول العالم لتصدر بياناً يحاكي حل الدولتين وما شابه، بل حان الوقت أن نقول للصينيين وغيرهم إن فلسطين بالنسبة إلى الفلسطينيين والشعب العربي لا تقل أهمية عن تايوان بالنسبة إلى الصين، وإن العداء بيننا وبين الصهاينة لا يختلف في مستوياته عن العداء الذي كان بين الصينيين واليابانيين أيام الاحتلال الياباني للصين، وإنّ مذابح الصهاينة في غزة لا تختلف في وحشيتها عن مذابح اليابانيين في مدينة نانتينج الصينية، وإن التجارب التي أجرتها الوحدة اليابانية 731 على المدنيين الصينيين لا تختلف في وحشيتها عن ممارسات الكيان الصهيوني بحق الفلسطينيين. إن موقف الصين اليوم مع كفاح الفلسطينيين يجب ألا يقل صلابة ودعماً عن موقف الصين مع الفيتناميين. وأن مئات آلاف الشهداء العرب من مصر وتونس والجزائر والعراق ولبنان وسوريا واليمن وغيرها ارتقوا من أجل عروبة فلسطين وتحريرها ولم يسقطوا من أجل حل الدولتين أو من أجل اتفاق مسخ.
من دون شك أن الأداء السياسي للمفاوض الفلسطيني المقاوم لم يكن بهذه القوة والصلابة والتمسك بالثوابت. وهو يحظى باحترام الأكثرية الشعبية، وليس السبب وراء ذلك أن غزة لم يعد لديها ما تخسره، كما يسوّق البعض، بل لأن هذه المقاومة تستند إلى قوة ميدانية وتجربة طويلة من فشل المفاوض المستسلم، ودروس مائة عام من النضال، خبرت وجربت كل ألاعيب العدو وأكاذيبه. السبب هو هذه المقاومة وصانعي القرار فيها الذين قدموا عائلاتهم وبيوتهم وأنفسهم.
إنّ المقاومة الفلسطينية جزء لا يتجزأ من معسكر كبير يمتد من لبنان إلى العراق إلى سوريا فاليمن وإيران، فالشعب العربي بمختلف أقطاره وأماكن وجوده والشعوب الحرة، والدول الصديقة في جنوب أفريقيا وكولومبيا وفنزويلا وبوليفيا وغيرها، وصولاً إلى جامعات وشوارع أميركا وأوروبا وغيرها، تشكل في مجموعها معسكر المقاومة الكبير الناهض في مواجهة الإمبريالية والصهيونية والاستعمار.
في هذه الأيام تمر ذكرى المؤتمر الصهيوني الأول في بازل السويسرية (29 آب 1897) حيث بدأت الحركة الصهيونية الاستعداد والحشد لبناء كيانها في فلسطين، واليوم وبعد كل هذه السنوات من التآمر والقتل، وفي معركة «طوفان الأقصى»، قامت المقاومة الفلسطينية بعملية اختراق لأكثر خطوط العالم تحصيناً، واستطاعت المقاومة اللبنانية ضرب أهم قواعد العدو العسكرية وإزالة خطر مئة ألف صهيوني من مستوطنات الشمال. وأغلقت القوات المسلحة اليمنية أحد أهم المعابر المائية في العالم في وجه أعتى قوتين بحريتين في العصر الحديث.
إنّ نصر أكتوبر العظيم الذي بدأ في السابع من تشرين الأول 2023 أعاد فلسطين إلى عمقها العربي والإسلامي والأممي، وخلخل ركائز المشروع الصهيوني، ولا بد من أن يستكمل هذا النصر بهزيمة العدوان وإفشال أهدافه. وهذا يتطلب منا أداء المنتصرين. ومن حقنا وواجبنا التصرف كمنتصرين.