الثنائي بلينكن ــ نتنياهو: المشروع الأصلي!
سعد الله مزرعاني – وما يسطرون|
حين أعلن وزير الخارجية الأميركي، لحظة وصوله إلى تل أبيب، أنه «يهودي» قبل أن يكون وزيراً لخارجية الولايات المتحدة الأميركية، كان يعلن، منفعلاً، حقيقة سياسية وعملية مُوجّهة وملزمة وراسخة، ولم يكن يفشي سرّاً. ذلك أنّ الرجل يشغل أعلى منصب رسمي في الإدارة، بعد الرئيس ونائبه. ذلك المنصب، بالذات، كان دائماً محط أنظار اللوبي الصهيوني الأميركي الذي سعى، في ما يشبه الاحتكار، لوضع اليد على تمثيل الولايات المتحدة في الخارج، وخصوصاً في منطقة الشرق الأوسط.
الوزير الأميركي الذي طغت ملامح الوجوم الدائم على وجهه نتيجة الإخفاق الإسرائيلي الفادح في السابع من أكتوبر وما بعده، «انعجق» وابتسم، فقط، في مشاهد زياراته التسع لإسرائيل ومع مسؤوليها، وخصوصاً نتنياهو. ثابر الرجل على تقديم نفسه شريكاً في قيادة المعركة، وفي متابعتها والإشراف عليها، عبر مواقف وحضور علني لاجتماعات الهيئات الإسرائيلية المقرِّرة سياسياً وأمنياً. قاد عملية تعبئة داعمة ومتواصلة لكل حلفاء وتابعي واشنطن في العالم وخصوصاً في صفوف المطبّعين العرب. وقبل وبعد هذا وسواه، تصرّف بلينكن على أنه ليس فقط ممثّل الإدارة الديمقراطية الحالية، بل أيضاً ممثل «الدولة العميقة» في منظومة الحكم الأميركية. وهي «الدولة» التي تتمتّع فيها الحركة الصهيونية الأميركية بمواقع راسخة ومؤثّرة جدّاً، بما يخترق تداول السلطة وتباينات حزبيها الديمقراطي والجمهوري، ويفسّر، أيضاً، الدعم الدائم للكيان الصهيوني في كل الإدارات، والمراحل والمناسبات.
أعطى بلينكن، دائماً، الأولوية لإعادة المحتجزين. حمّل «حماس»، دائماً، مسؤولية استمرار الحرب، لم تصدر عنه كلمة واحدة في انتقاد حكومة نتنياهو المتطرّفة ورئيسها في أي موضوع أو أيّ مناسبة. وهو، في السياق، لم يجامل، ولو شكلياً، رئيسه الذي تأفّف، مراراً وعلناً، من تدهور سمعة أميركا «أخلاقياً» في العالم، نتيجة دعمها لإسرائيل. بذلك بدا بلينكن أقرب إلى أن يكون وزيراً أوّلَ للخارجية الإسرائيلية. بهذه الخلفية، أجّل، لمدّة يومين، زيارته الأخيرة للمنطقة من أجل أن يقرّر، بشكل متسرّع ومستغرب، وفي مرحلة مفصلية من المفاوضات، أن «نتنياهو وافق على المقترح الأميركي، وأن على حماس أن تفعل الأمر نفسه»! هذا فيما كان نتنياهو يردّد، بدون توقّف، قراره بالمضي في الحرب (لا بالمفاوضات) كسبيل وحيد، لتحقيق أهداف حكومته المعروفة! أكثر من تفاجأ بإعلان بلينكن «الشارع» الإسرائيلي: معارضةً، وأهالي محتجزين، وإعلاماً… وربما نتنياهو نفسه الذي، لم يكن يتصوّر أن يصل شريكه بلينكن إلى هذا المستوى من التماهي مع مواقفه!
من جهته، اعتمد نتنياهو، منذ البداية، وفي أوّل تصريح له بعد «طوفان الأقصى»، خطاباً جذرياً واستراتيجياً: «سنعيد رسم خريطة الشرق الأوسط». وهو بذلك كان يحاول مواصلة سياسة توسّع شاملة، بمشاركة وإشراف أميركييْن، تمثّلت معالمها الأساسية في ركنين: الأوّل، اعتماد سياسات وإجراءات لإزالة الأساس الموضوعي لتمكين الشعب الفلسطيني من استعادة أي جزء من حقوقه، وخصوصاً إقامة دولة مستقلّة خاصّة به. الثاني تطوير وتعزيز عملية التطبيع بضغوط ورعاية من واشنطن، بما يوفّر للكيان الصهيوني دوراً محورياً في منطقة الشرق الأوسط: لتوطيد الكيان الصهيوني، ولتعزيز السيطرة الأميركية.
لقد كان الهدف المباشر الأوّل للثنائي بلينكن-نتنياهو، هو هزيمة المقاومة وتدفيع الشعب الفلسطيني في القطاع ثمناً رهيباً بسبب خياراته المنحازة، علناً أو ضمناً، للمقاومة. لكن المقاومة، كما فعلت في عملية «طوفان الأقصى»، قادت مواجهة بطولية ومدهشة للقريب قبل البعيد. كذلك فشلت محاولات دفع فلسطينيي القطاع نحو الهجرة عبر المجازر والقصف المجنون والهمجي والمستمر منذ أكثر من 10 أشهر حتى اليوم. أدّى ذلك، معزّزاً بمقاومة الضفة الغربية وجبهات المساندة والحملة الاحتجاجية الشعبية الدولية، إلى عجز الصهاينة وحماتهم، عن تحقيق أي انتصار جدّي في الساحات، وحتى في المفاوضات كما اعتادت واشنطن أن تفعل لمصلحة الكيان الصهيوني.
وضعهم ذلك أمام احتمالين:
الأوّل، التسليم بالهزيمة النسبية.
الثاني، تحويل الاستعصاء إلى فرصة لمحاولة تحقيق انتصار يتجاوز غزة إلى مجمل فلسطين، وفلسطين إلى مجمل المنطقة العربية.
إنّ الخيار الثاني، هو، مبدئياً، خيار أميركي بالدرجة الأولى. وهو الذي حفَّز، باستمرار، مشاريع واشنطن من «الشرق الأوسط الكبير»، إلى «صفقة القرن»…لكن هذا الأمر وقع، بالنسبة إلى الإدارة الأميركية الحالية، في الأسابيع الأكثر حساسية من الانتخابات الأميركية التي برز فيها، بشكل مؤثّر انتخابياً، تيار معارض لحرب الإبادة في غزة، ولدعم إدارة بايدن لهذه الحرب.
من جهته، تجاوز نتنياهو، شريك بلينكن، وبدعم منه، مشاكله الداخلية، سياسياً وشعبياً. وهو تحوَّل، في مخططات الحركة الصهيونية الأميركية خصوصاً، المسؤول الرئيسي المعوَّل عليه في تأمين استمرار الحرب وفي توسيع نطاقها وشمولية أهدافها فلسطينياً وإقليمياً. ولقد شكّلت زيارته لواشنطن وخطابه في الكونغرس، محطّة انعطافية، في حسم الصراع الداخلي في إسرائيل لمصلحته على حساب من حاولت إدارة بايدن، في وقت من الأوقات، الرهان عليهم لجعل الحرب في غزّة تتحرّك، فقط، على إيقاع مصلحة الحزب الديمقراطي وليس مصلحة ترامب، حليف نتنياهو وعصابات الفاشيين العنصريين في الصهيونية الدينية الإسرائيلية.
في هذا الأمر، بدا بلينكن الذي توجّه مواقفه السياساتُ الصهيونية بالدرجة الأولى، أقرب إلى المرشح ترامب منه إلى المرشحة كمالا هاريس!
إدارة بايدن التي بدت حذرة وقلقة من توسيع الصراع في ذروة مرحلة الانتخابات، لم تتردّد، بالمقابل، في تأكيد انحيازها الصارخ، مرّة جديدة، إلى الكيان الصهيوني، عبر زجّ معظم قوّتها العسكرية في المنطقة «دفاعاً عن إسرائيل». وهي قدّمت صياغة جديدة لمقترح صفقة التبادل، بما يلبّي معظم الشروط الإسرائيلية. إلا أن نتنياهو استمرّ يطالب بالمزيد!
أمّا التحذير الموجَّه من قبل واشنطن وحلفائها من خطر توسعة وأَقْلَمَة الحرب، فهو، بالنسبة إليه وصفة سحرية تمكّنه من توريط واشنطن في معركة قد تسمح بتجاوز فشله المتفاقم. ما تحاوله الإدارة الأميركية، في هذه المرحلة، كما في كل المراحل، ورغم المنافسة الضارية، هو سعي متجدّد لتحقيق أهداف إسرائيل، بوسائل الخداع والمناورات والمفاوضات، بعد عجز جيشها عن تحقيق ذلك بالقوة والمجازر والإرهاب.
كشفت حرب غزة مدى وحشية الصهاينة حتى العار! كشفت، أيضاً، خداع وإرهاب أميركا والغرب حتى الإفلاس الأخلاقي. كشفت، ثالثاً، الحقارة الرسمية العربية حتى الذل والهوان. لكن أروع وأبهى ما كشفته إنما هو تلك الصفحات الخالدة من البطولة والتضحية والصمود والشرف الفلسطينية.