الحرب اللامتناظرة: كسر نوعي للتـفوّق
علي إسماعيل – وما يسطرون|
منذ السابع من أكتوبر الماضي، تاريخ بداية الحرب على غزة وما لحقها من جبهات إسناد وحروب، يتردّد على مسامعنا مفهوم الحرب اللامتناظرة أو غير المتكافئة. يُستخدم هذا المفهوم بشكل سطحي ومُفرّغ من معناه في الكثير من الأوقات من قبل بعض العقول المهزومة أو المأجورة للتقليل من قيمة المقاومة في غزة ولبنان باعتبارها قوة مغامرة تجرّنا نحو حروب لا إمكانية للنصر فيها ليس لشيء سوى لأنها حرب لامتناظرة. فما هي الحرب اللامتناظرة؟ وهل هي عبثية فعلاً؟يتسم هذا النوع من الحروب بعدم التكافؤ بين الأطراف المتنازعة من حيث القوة العسكرية، التكتيكات، الموارد، أو الأهداف. في كتابه «كيف يفوز الضعفاء بالحروب: نظرية النزاع اللامتناظر»، يتحدّث إيفان آرغويلز عن أن النجاح في الحرب اللامتناظرة يعتمد على قدرة الطرف الأضعف على تجنّب نقاط القوّة للطرف الأقوى واستغلال نقاط ضعفه، من خلال التركيز على العمليات غير التقليدية. أمّا داود قلالة، في كتابه «حرب مكافحة التمرد: النظرية والممارسة»، فيعطي الوزن الأعلى للدعم الشعبي، فبنظره أن الحرب اللامتناظرة تعتمد بشكل أساسي على العمليات العسكرية الشعبية، ضمن بيئة تحتضن العمل المسلّح وتساهم في نجاحه. يوجد الكثير من الدراسات حول هذا النوع من الحروب، والتوصيف الحديث لها أنها حروب بين قوى نظامية (جيوش) وقوى غير نظامية (فصائل مسلحة). لكن هذا التوصيف يبقى محدوداً أمام التعريف العام. فليست كل الجيوش متكافئة، لا اليوم ولا تاريخياً. في التاريخ، ممالك وإمبراطوريات راكمت الثروة، فأحسنت تنظيم الجيوش وطوّرت نفسها، فتقدّمت على نظيراتها، فغزت، وأخرى تخلّفت عن السبق فاندثرت، في حروب كلها لا متناظرة. إذاً، الحرب، بمعظمها، هي لا متناظرة.
يتحدث يانيس فاروفاكيس، وهو وزير المالية اليوناني السابق الذي فاوض البنك الدولي، في كتاب له بعنوان «الاقتصاد كما أشرحه لابنتي»، عن أولى الحروب البيولوجية، بشكلها البدائي بالطبع، مع أولى سمات التطور البشري ولكن الأهم هو اكتشاف الزراعة. فالغزاة البريطانيون الذين دخلوا ما يُعرف حالياً بأستراليا، كانوا متقدّمين مناعياً، وذلك لتأقلمهم مع بعض أنواع البكتيريا والأمراض الناتجة عن تكديس الطعام نتيجة الزراعة. أمّا السكان الأصليون الذين لم يكونوا قد اكتشفوا الزراعة نظراً إلى وفرة الطعام في أرضهم، فإن أجسادهم لم تطوّر مناعة ضدها فكانت تقتلهم، وقد لاحظ المستعمرون هذا الأمر واستخدموه كسلاح فتّاك أودى بحياة عدد كبير من السكّان الأصليين واستعمروا أرضهم. هذا المثال ليس للإقرار بالنظرية المنهزمة بل للقول إن البشرية جمعاء تعلّمت الزراعة ومنذ مئات السنين. لذلك، لم تعد نظرية الحرب اللامتناظرة بهذه السذاجة، بل أصبحت أداةً فعّالة بيد الشعوب، تقودها نحو التحرير، وفي التاريخ عشرات، بل مئات، الشواهد.
أرض فلسطين نفسها، تحرّرت من الغزو الصليبي بحرب لا متناظرة، فجيوش الصليبيين كانت أكثر تطوّراً من جيش صلاح الدين؛ من حيث بناء القلاع كانت لديهم أكثر القلاع تحصيناً في العالم في ذلك الوقت، وكانت فرسانهم مدرّعة بالكامل، كما كان خطّ الإمداد من الممالك الأوروبية مفتوحاً لهم. أمّا صلاح الدين، فقد كان يدير بلاداً مأزومة تتأرجح بين خلافة وأخرى وهزيمة وأخرى. واستطاع، تحت شعار طرد الغزاة، لملمة ما تبقّى من قوى فيها وأدار حرباً لا متناظرة متجنّباً المعارك التقليدية بين جيوشه وجيوش العدو، فاستخدم أسلوب الكمائن والإغارات السريعة، أمام جيشٍ صليبي مدرّعٍ بالكامل وحركته ثقيلة. هاجم قوافل الإمداد والنقاط الضعيفة وشنّ حرب استنزاف طويلة أنهكت الغزاة، ومن ثم هاجمهم في معركة حطين في عام 1187.
حرب 2006 كانت حالة جديدة حيث استهداف نقاط قوّة العدو لا نقاط ضعفه
في القرن الماضي، تطوّرت التكنولوجيا العسكرية للجيوش بشكل هائل، ورغم ذلك لم تكن الحرب العالمية الثانية حرباً متكافئة؛ فالألمان كانوا متقدّمين على الحلفاء بأشواط، وأوروبا الغربية لم تصمد لأيام في وجه النازية، وسقط جزء كبير من الاتحاد السوفياتي في الأشهر الأولى. ولكن تكتيكات الحرب والصناعة السوفياتية والمقاومة في الدول الأوروبية كفرنسا واليونان وغيرهما، استنزفت وأنهكت الألمان حتى هزيمتهم على رغم التضحيات الجسيمة التي قدّمتها شعوب هذه البلاد.
انتهت الحرب العالمية الثانية وبدأت الحرب الباردة، وبدأ عصر التفوّق العسكري للولايات المتحدة الأميركية التي كانت قد امتلكت القنبلة النووية في خضمّ الحرب، وبدأت بتطوير آلة عسكرية بتكلفة هائلة بالتعاون مع دول الغرب عبر حلف «الناتو». حتى الاتحاد السوفياتي نفسه لم يستطع مجاراتها بالطريقة ذاتها، فكانت أميركا تصنع الطائرات والاتحاد السوفياتي يطوّر الصواريخ والدفاعات الجوية، وقس على ذلك في جميع المجالات. لقد سمحت الحرب اللامتناظرة لعشرات الدول أن تتحرّر وتتشكّل في القرن العشرين بدعم سوفياتي، فقاذف الـ«بي 7» والكلاشينكوف الرخيصا الثمن كانا رمز حركات التحرّر في كل بقاع الأرض، في الجزائر وكوبا وفييتنام وجنوب لبنان وكوريا واليمن، وعشرات البلدان، ونجحا في مواجهة أعتى الآلات الحربية، والأهم أنهما انتصرا.
يتحدّث رود ثورمن في كتابه «الحرب اللامتناظرة: تهديد واستجابة في القرن الواحد والعشرين» عن الحروب اللامتناظرة في القرن العشرين، كما يخصّص مقطعاً عن الحرب بين حزب الله وإسرائيل في عام 2006 (بالمناسبة، نُشر الكتاب بعد حوالي عام من الحرب)، فيعتبر الكاتب أن حزب الله انتصر في الحرب لسببين رئيسييْن:
الأوّل، قدرته على الصمود وامتصاص الضربات الجوية التكتيكية وبتقنيات بدائية كالأنفاق، وهنا الصمود أمام نقطة التفوّق الأساسي للعدو (سلاح الجو).
أمّا السبب الثاني، فإن حزب الله كان يعلم جيّداً نقاط قوّة الجيش الإسرائيلي برّياً أيضاً، فزوّد نفسه بأسلحة تستطيع تدمير التفوّق النوعي على الأرض (دبابة الميركافا)، ما خلق حالة ارتباك عارمة في صفوف الجيش الإسرائيلي. من ثم الصاروخ الذي دمّر البارجة (ساعر)، وبالتالي استطاع، بتكلفة بسيطة وأعداد قليلة، إيقاف أهمّ قوّة عسكرية في المنطقة.
وهذه كانت حالة جديدة من الحرب اللامتناظرة حيث استهداف نقاط قوّة العدو لا نقاط ضعفه.
في الوقت الراهن، تغيّر كلّ شيء. فقد تعلّمت شعوب المنطقة الزراعة جيّداً وطوّرت مناعة متقدّمة عن أسلافنا المضطهدين (كسكان أستراليا الأصليين). فعلى الرغم من التفوّق العسكري لإسرائيل، وهذا طبيعي فهي تمتلك كل التطور العسكري الغربي (ولا نبالغ إذا قلنا إنه لو اندلعت الحرب اليوم بين دول أوروبية غربية وروسيا، لن يواجه الجيش الروسي التقنيات العسكرية وأنظمة التحكم والرادارات والطائرات المتطورة كالتي تمتلكها إسرائيل)، ولكن كل هذا يسقط أمام الحرب اللامتناظرة وأمام أساليب وتقنيات تستخدمها المقاومة، أضحت تجاري أعظم رادارات العالم لا بل تصوّره من فوقه بطائرة مُسيّرة لا تتجاوز تكلفتها الواحد بالألف من تكلفة الرادار الذي لا يراها.
يسقط كل التفوق أمام مُسيّرة لا يتجاوز ثمنها ألفي دولار، تجوب عشرات الكيلومترات فوق أكثر أنظمة الدفاع الجوي تطوّراً في العالم وتصيب هدفها بعد أن يُطلق نحوها عدة صواريخ من الدفاع الجوي بتكلفة تتجاوز مئات آلاف الدولارات عدا التكلفة الهائلة التي تتجاوز مليارات الدولارات لتجهيز البنى التحتية للجيش الإسرائيلي. هذا إلى جانب امتلاك المقاومة الصواريخ المضادة للسفن والدروع والصواريخ الدقيقة، وهذا ما سمحت الظروف بكشفه حتى الآن. والأهم، أن المقاومة تجاري التطور في التكنولوجيا العسكرية على طريقتها، ولا نبالغ إذا ما قلنا بأن جزءاً منها محلي، من دون الانجرار إلى سباق تسلّح مكلف ينهكها اقتصادياً، وهذه تُعتبر نقطة تفوّق كبيرة لها.
هذا العرض ليس للقول بأن إسرائيل لا تستطيع انتهاج سياسة التدمير الوحشي في أي حرب مقبلة أو تحقيق الإنجازات، فالمبالغة ليست مطلوبة في الظروف الحالية. ولا للقول بأن المقاومة تتفوّق على العدو تكنولوجياً، إنما في لبنان مقاومة تخوض حرباً لا متناظرة لكنها باتت شبه متكافئة بإمكانات نوعية. وفي غزة شعب ومقاومة سينتصران بـ«الياسين» وعبوة العمل الفدائي. فإسرائيل ليست أوّل مستعمر، ومقاومتنا ليست أوّل مقاومة، وفي التاريخ عبرٌ لمن يعتبر.