القلق والاستعصاء الإيجابي
سعد الله مزرعاني – وما يسطرون|
القلق سيد الموقف في المنطقة على طرفي النزاع بشكل شبه متساوٍ. وهو قلق مشروع تماماً بسبب حجم المخاطر والخسائر في حال اندلعت حرب شاملة بأدوات العصر الحديثة ذات القدرة الفائقة على الأذى والتدمير والقتل. ثمة قلق من نوع آخر، هو ذلك القلق «المسيّس» الذي مبعثه التشكيك بجدوى المواجهة والمقاومة. إنه يدّعي التعبير عن مصالح الناس الأولية، بينما هو يستبطن إشاعة مناخات اليأس واللاجدوى، وبالتالي الدعوة، شبه الصريحة، إلى إلقاء السلاح، ثم، إلى الخضوع والاستسلام.القلق والمخاطر واستمرار الصراع على هذا النحو المرهق والطويل الذي ترافقه أعظم البطولات والصمود والآلام، وأفدح الخسائر، وأبشع الجرائم، وأفظع ألوان التواطؤ وموت الضمائر… هي، على تناقضها وتفاقمها، قادت إلى الاستعصاء القائم. والاستعصاء في زمن اختلال التوازنات ومراحله، وتغول الظلم والإجرام، يرتدي طابع النعمة لا الغمة فقط. ذلك أن الاستعصاء اليوم هو ثمرة إرادة مواجهة، وقرار مقاومة بطولية، وعزيمة صمود شعبي لا مثيل له في التاريخ. الشعب الفلسطيني يتشرد، ويتألم، ويعاني، ويجوع، ويموت… ولا يرفع رايات الاستسلام.
المقاومة بادرت بالدفاع الهجومي، وواصلت القتال على نحوٍ أسطوري وبطولي قلَّ نظيره. هي بذلك شكّلت المصدر الأول للاستعصاء بمقدار ما أنها استمرت وتواصل منع العدو الصهيوني وداعميه في الغرب، وعلى رأسهم واشنطن، من تحقيق أهدافهم، منفردين ومجتمعين. أهم تلك الأهداف توفير انتصار سريع وسهل للعدو الصهيوني على الشعب الفلسطيني، ثمّ، تمكين حلفهم العدواني من الهيمنة على الشرق الأوسط والسيطرة على مقدرات شعوبه وثرواتها ومصائرها.
السبب الثاني للاستعصاء، هو عجز واشنطن، رغم كل المناورات والمؤامرات، عن تمكين العدو الصهيوني، من أن يحقق عبر المفاوضات ما عجز عن تحقيقه في الساحات. ماطلت واشنطن، راوغت، نافقت، استنفرت كل الأتباع من الأنظمة العربية والغربية دعماً للحكومة الإسرائيلية.
قدّمت كل أنواع الأسلحة. شاركت في المعركة: عسكرياً وسياسياً وأمنياً واستخباراتياً… ورغم ذلك لم تستطع فرض شروطها، تماماً، كما عجز العدو في الميدان، عن تغيير المشهد لمصلحته طوال الأشهر الطويلة، ورغم هول ما ارتكبت آلته الحربية المتفوقة، من المجازر، وما اتصفت به هجماته من الضراوة والوحشية والإجرام الموجه ضد المدنيين، بالدرجة الأولى، في حرب إبادة استحضرت وكثَّفت وطوَّرت مراحل سوداء مظلمة في تاريخ الحروب والمآسي والكوارث.
ثمّة سبب آخر يتمثّل في اضطراب الوضع في كيان العدو، نتيجة تناقضاته الداخلية المشفوعة بصراع ضار على السلطة، وبتصاعد استثنائي لنفوذ اليمين العنصري الفاشي الذي يتحكم في بقاء الحكومة وفي قراراتها. هذا الطرف يمارس، في السياق، كل أشكال الابتزاز والإرهاب والتجاوز والميليشياوية، ما أفقد الحكومة المرونة، ورئيسَها القدرة على المناورة. يضاف إلى ذلك أن نتنياهو مدان، مع وقف التنفيذ، بالفساد سابقاً، وبالإخفاق حالياً. لقد تغذى وتفاقم «البطر» الإسرائيلي المؤسس على العنصرية والعدوان، بالاختلالات الدولية لمصلحة واشطن، وبتعاظم وسخاء دعم إداراتها للمشروع الصهيوني في فلسطين. وهو قد تعزّز كذلك بتخاذل معظم الحكّام العرب وتواطئهم وخيانتهم. كما أنه يستفيد من الموجة العنصرية التي تجتاح «العالم المتمدن» نتيجة أزمات النظام الرأسمالي في طوره الراهن. كما أنه يستفيد من تراجع دور القوى التحررية الذي بات يتطلب معالجة سريعة وجادة وجدية.
والاستعصاء أخيراً، هو بسبب ما توافر للشعب الفلسطيني من الدعم المباشر: العسكري والسياسي والجماهيري عبر خطوات\جبهات: جريئة وفاعلة ومثابرة، حالت دون الاستفراد بالمقاومة وبالشعب الفلسطيني.
إنه، إذاً، «الاستعصاء الإيجابي»، وفقاً لكل مقارنة مع مراحل الاسترخاء والعجز والاستسلام في معظم الحروب والمعارك السابقة. إنه مخاض أليم مقرون بفداحة المعاناة وضخامة خسائرها، خصوصاً في صفوف المدنيين. يقود ذلك حتماً إلى تأمّل عميق في ما حملته المواجهة الراهنة من تطورات إيجابية وما تبلور خلالها من صبغ مواجهة وعمل مشترك وتنسيق مستمر. إنّ ملامح عمل تحرري قد تبلورت في مجرى هذه الملحمة الممتدة من كل زاوية في غزّة، إلى الضفة الغربية. ومن بيروت إلى صنعاء، ومن طهران إلى بغداد ودمشق… إلى أصداء مدهشة في الخارج عبر حملة تحركات احتجاجية واعدة بكل المقاييس. تنطوي هذه الملامح على الكثير من العناصر الإيجابية التي تحتاج إلى تركيز وتطوير لجهة الأهداف والأساليب والعلاقات والأولويات. إنها تحتاج إذاً إلى بلورة مشروع متكامل ذي طابع تحرري شامل في استهدافاته التحررية على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
تدور المعركة الآن في منطقة ما زالت تتمتع فيها واشنطن بنفوذٍ متجذِر واستثنائي. كشفت مجريات الصراع أن الكيان الصهيوني هو مشروع غربي شامل. وهو كذلك لسببين: حاجة الغرب إلى قاعدة إقليمية للسيطرة على مصائر المنطقة. والثاني، النفوذ الهائل والخطير للحركة الصهيونية في مجمل دول الغرب الاستعماري الأطلسي، وفي صلب النظام الرأسمالي الإمبريالي، على نحو ما تكشفه عملية الاستنفار الهائلة لمصلحة العدو: في كل مرة يقود عدواناً أو يواجه مأزقاً.
بديهي أن المعركة، الآن، مصيرية أكثر من أي وقت سابق. لهذا ينبغي أن تنخرط وتتجنّد فيها كل الاتجاهات الرافضة للمشاريع الصهيونية والاستعمارية والرجعية: شريكةً ومساهمةً في صياغة الرد، وفي الغنم والغرم. لن يحصل ذلك، بطبيعة الحال، إلا عبر عملية نقد صارمة للمراحل السابقة من النضال ومن التجارب، بإيجابياتها وسلبياتها. في المقابل، لا بد من تفادي فتح معارك بائسة وجانبية حول بعض التعدديات والتباينات الاجتماعية في السلوك أو الملبس أو في الثقافة أو العادات… أو فرض تشريعات نافرة (خصوصاً في الظروف الحالية) من نوع الزواج المبكِر للأطفال الذي قد يتحوّل، بدافع الجهل، أو الاتجار بالبشر، أو الشبهة، إلى شكل من أشكال «الوأد» المقنّع والظالم.