حسابات الربح والخسارة في الضربة الإيرانيّة
أسعد أبو خليل – وما يسطرون|
أصابَ قائد حزب الله قبل أسابيع عندما قال إن اغتيال هنية في طهران من قبل العدوّ كان إنجازاً له. محلّل أميركي في «مجموعة الأزمات الدوليّة» وصفَ الضربة الإسرائيليّة بأنها وضعت إيران في خانة «كشّ ملك». المعنى أن إيران في ورطة، لو ردّت أو لم تردّ: وكيف تردّ من دون أن يأتي ردّ مضاد يضعها في موقع إستراتيجي أضعف؟ هناك حسابات عدة ومتشعّبة لو إيران أرادت أن تضربَ إسرائيل انتقاماً وهذا حقّها (الطريف أن دول الغرب سارعت إلى استنكار وإدانة ضربة لم تأتِ بعد من إيران وحزب الله فيما هي امتنعت عن التعليق على ضربة إسرائيليّة حصلت في إيران ولبنان).
ماذا لو لم تضرب إيران
لو قرّرت إيران أن تتجاهل الضربة الإسرائيليّة في قلب طهران، فإنها تُضعف من وزنها وقدراتها الإستراتيجيّة وتكشفُ ضعفاً في رصيدها الردعي إزاء إسرائيل. إنّ اغتيال قاسم سليماني فتحَ شهيّة أعداء إيران لاستغلال محاولتها تجنّب الانجرار إلى مواجهة مع أميركا أو مع إسرائيل، أو مع الاثنتين معاً. ردّت إيران على اغتيال سليماني (ولم تعترف أميركا بإصابات جنودها إلا بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات لأن أميركا، كما إسرائيل، لديها القدرة على إخفاء خسائرها لو أرادت لأهداف «المصلحة القوميّة».
يستطيع أي رئيس أن يصنّف إصابات أميركيّة في خانة «أسرار الدولة»، ما يضمن خضوع الصحافة لأمر الحكومة. ديموقراطيّات الغرب ليست على الشفافيّة التي يظنها العرب، كما أن إسرائيل كانت ولا تزال دولة أمنيّة-عسكريّة، وحريّة التعبير تخضع لاعتبارات الأمن القومي، تماماً مثل حسابات أنظمة البعث والخليج). قرّرت إيران يومها أن ضربة مباشرة ضد قوّات أميركيّة والتسبّب في مقتل عدد كبير من القوّات الأميركيّة ليسا في مصلحتها. امتناع إيران عن الردّ حماها من ردود أميركيّة قويّة ضد أهداف عسكريّة متعدّدة في إيران ولكنّه فتح الطريق أمام أميركا وإسرائيل لاستسهال ضرب إيران في المستقبل. هذا لا يعني بالضرورة أن قرار الردّ القوي كان يجب أن يكون سهلاً على إيران أو أن على إيران الشروع في الردّ الفوري على القصف الإسرائيلي. هذا طريق جرّبته الدول العربيّة في الماضي وجرّها إلى وضع عروشها تحت رحمة الوحش الإسرائيلي.
إن امتناع إيران عن الردّ الآن (لو هي قرّرت ذلك، وهذا مستبعد، وقد يكون الردّ قد أتى بعد إعداد المقالة وقبل نشرها في الجريدة هنا) يعرّض الأمن الإيراني لخطر كبير لأن إسرائيل تستغلّ أي نقطة ضعف عند أعدائها. في أوّل الحرب الإسنادية في الجنوب، اكتشف العدوّ بسرعة أن مقاتلي الحزب يحملون هواتفهم معهم ما جعلهم هدفاً سهلاً. تلافى الحزب هذا الخطأ لكن، على الأرجح، بعد لَأْيٍ وتثقيف علمي وإلكتروني وأمني. والحياة الشخصيّة للمرء والروتين قد يكونان نقطة ضعف لأن العدوّ يستطيع أن ينفذ منها. هكذا كان حال المقاومة في عزّها.
قوة الردع لأي دولة تعتمد على إعلام أعدائك بأنه لن يضربك أو يخرق سيادتك من دون دفع أثمان. يستطيع العدوّ أن يختبر ضعف سيادتك بالتدريج. هذا ما حصل بين لبنان وإسرائيل عبر السنوات. ما يُسمّى باتفاق الهدنة كان فعل استسلام من قبل دولة لبنان وجيشه أمام إسرائيل.
هناك احتمال أن يسمح بايدن بتوسيع الحرب خصوصاً وأن قواه العقليّة خارت أمام أنظارنا في الأشهر الماضية وهنا قدرة للمتعصّبين الصهاينة والمُموِّلين على الإصرار على تبنّي حرب ضد إيران، وهي حرب دائماً ما اشتهاها اللوبي الإسرائيلي
كما أنه كان اعترافاً من قبل لبنان أن القضيّة الفلسطينيّة لا تعنيه البتّة وأنه يتنصّل منها بالكامل (اتفاق الهدنة كان يتجسّد بتلك المباراة الحبيّة في كرة القدم في 8 حزيران 1949 بين جيش لبنان وجيش إسرائيل، راجع الخبر في اليوم التالي في «جيروزاليم بوست»). إذا كان عدوّك يريد إذلالك فما عليه إلا إيجاد نقاط ضعفك واستغلالها. هكذا كان لبنان قبل الحرب. كلّما فرّط لبنان بسيادته وأهمل تسليح جيشه، زاد العدوّ من غيه وعدوانه واستراح على الأراضي اللبنانيّة. الدول العربيّة المجاورة كانت أكثر سياديّة من لبنان لأن جيوشها كانت أقوى. لبنان أهمل إعداد الجيش (باتفاق بين الرؤساء الموارنة مع أميركا وإسرائيل) ما فتح شهيّة العدوّ على استغلال ضعف لبنان. يكفي أن إسرائيل (التي كانت تحترم سيادة لبنان حسب سرديّات المجهود الحربي الإسرائيلي من لبنان هذه الأيّام) قصفت محطة ضخّ مياه الوزّاني في 1964 كي تستفيد هي من المياه وتحرم لبنان منها. امتثل لبنان لإرادة إسرائيل وانصاع. لو أن لبنان قصف إسرائيل أو أصرّ على حقّه، كانت شهيّة العدوّ قد ضعفت.
وهناك عامل داخلي في السياسة الداخليّة لإيران وهو سيؤثّر على حسابات إيران. الانتخابات الرئاسيّة الأخيرة لم تكن في مصلحة النظام أبداً. هي كانت مفيدة لأنها أظهرت جانباً من شرعيّة سياسيّة لأن الانتخابات (وإن كانت محدودة ومشروطة بحسب مجلس صيانة الدستور) أظهرت تنافساً حقيقيّاً وكانت نزيهة بدليل النتيجة غير الملائمة للحكم.
مرشّح للمعارضة الإصلاحيّة (الإصلاح هو كل ما يفيد المعسكر الغربي ومؤامراته، من هنا فإن السنيورة والتغييريّين عندنا كلّهم إصلاحيّون) ينافس مرشحاً للحرس الثوري الإيراني (الذي يحكم البلاد حسب الإعلام الغربي) ويفوز فيها مرشّح المعارضة. وفوز المعارضة على قائمة ركّزت على ضرورة إصلاح الاقتصاد والانفتاح على الغرب أضعف من قوّة النظام وهيبته. ولهذا، إن التهديدات الغربيّة التي انطلقت في المدة الأخيرة نحو إيران ركّزت على الضرر الذي سيلحق بالاقتصاد في حال تفجّرت الحرب في المنطقة. يريد المعسكر الغربي أن يذكّر إيران بأن في مستطاعه أن يزيد الضغط على الاقتصاد من أجل أن يزيد من وتيرة المعارضة الشعبية للنظام. والشعب الإيراني، في اختياره لهذا المرشح ضد مرشح الحرس الثوري الإيراني، أعلنَ بنسبة كبيرة أو صغيرة، تفضيل خيار الداخل على خيار السياسة الخارجية.
لكن ماذا لو ضربت إيران انتقاماً
على إيران أن تحسب ألف حساب وحساب عندما تقرّر أن تضرب ردّاً على عملية اغتيال هنية. والردّ قد يكون متناسقاً مع أعضاء في محور المقاومة أو أن يكون متفرّداً لإيران بناء على حسابات السياسة الإيرانية. لو أن محور المقاومة برمّته اختار أن يردّ على العدوان الإسرائيلي، فإنّ ذلك يمكن أن يثير حساسيات عند الشعب الإيراني الذي لا يتعاطف – ليس كلّه حتماً – بالضرورة مع منطلقات السياسة الخارجية الإيرانية خصوصاً نحو فلسطين.
والتعامل مع العدوان الاستفزازي الإسرائيلي بصورة منفردة يعزز حسابات السيادة الإيرانية المحض من قبل النظام، وهذا يمكن أن يكسبَ تعاطفاً من قِبل الشعب الإيراني. ومشاركة الحزب في ضربة إيرانية لا يفيد الحزب بالضرورة لأنه يجعله يتصرّف، حسب نظرة أعدائه الكُثر في الخليج وفي لبنان، بناءً على حسابات غير لبنانية. والحزب متّهم بلبنانيته ربما لأن الطائفة التي ينتمي إليها متّهمة بعدم الوطنية منذ إنشاء الكيان الذي شكّك (من قبل الزعماء الموارنة) لعقود في وطنية كل المسلمين في لبنان.
المعضلة بالنسبة إلى إيران هي التالية: كيف يمكن أن تضربَ إسرائيل وأن تنتقمَ للعدوان في العاصمة الإيرانية من دون أن تَستدرج أو أن تُستدرَج إلى حرب إقليمية ضروس؟ إيران لا تعلم إذا كانت النية الإسرائيلية هي جرّ إيران إلى حرب من أجل أن تقوم إسرائيل بضرب متدرج ومتصاعد للمواقع النووية الإيرانية. طبعاً، تعلّمت إيران الكثير من تجربة قصف المفاعل النووي العراقي ولم يعد في الإمكان لإسرائيل أن تضربَ بضربة واحدة وأن تقضي على المشروع النووي الإيراني. و«المسكينة» إسرائيل لم تعد تستطيع أن تدافع عن نفسها من دون تدخل عسكري أميركي وغربي وعربي مباشر. وهي قد تخطط لاستدراج إيران وأميركا معاً كي يقوما بالتطاحن، بالنيابة عن مصالحها، ضد إيران.
على إيران أن تأخذ كل هذه الحسابات في الحسبان وأن تحسبَ بميزان دقيق مضاعفات كل عمل يمكن أن تقوم به في صدد الانتقام. هي لو ضربت قليلاً تزيد قليلاً من قوتها الردعية، ولو ضربت كثيراً تزيد كثيراً من قدرتها الردعية، ولكنها تجازف إذا ما أدّت ضرباتها القوية إلى حرب إقليمية. طبعاً لإسرائيل حساباتها أيضاً وهي لا يمكن أن تستسهل الشروع في حرب إقليمية وهي التي اعترفت بلسان وزير دفاعها قبل أيام أنها لا تستسهل اجتياح لبنان. هذه أيام ولّت إلى غير رجعة. لكن حسابات الحكومة الإسرائيلية ومصير نتنياهو قد تُدخل في عملية صنع القرار عناصرَ غير عقلانية وهذا لا يمكن إلا أن يدخل في الحسبان بالنسبة إلى قرار الرد الإيراني وحتى اللبناني.
هل هناك بالفعل من تصوّر لضربة إيرانية تضمن صيانة قوة الردع من دون أن تجازف بحرب؟ الجواب صعب لأن هذا يتطلب معرفة حقيقة النقاشات في داخل المجلس الحربي الإسرائيلي وحقيقة النقاشات بين أميركا وإسرائيل. لن يكون هناك خط أحمر أمام إسرائيل ما دام بايدن في البيت الأبيض. هناك احتمال أن يسمح بايدن بتوسيع الحرب خصوصاً وأن قواه العقليّة خارت أمام أنظارنا في الأشهر الماضية وهنا قدرة للمتعصّبين الصهاينة والمُموِّلين على الإصرار على تبنّي حرب ضد إيران، وهي حرب دائماً ما اشتهاها اللوبي الإسرائيلي.
لا تريد إيران أن تخاطر باقتصادها ولا تريد أن تخاطر بصناعتها النوويّة ولا تريد أن تخاطر بسلامة حلفائها في المنطقة، ولكن الردّ قد يعرّض القوّة للخطر. ليس هناك من إمكانيّة للعدوّ أن يردّ من دون أن يحاول على الأقل تعزيز ردعه الإستراتيجي، وهذا الردع كان أحد أسباب استفزاز إيران في معقلها في العاصمة. ولو أن إيران قبلت بوقف النار في غزة مقابل الامتناع عن الانتقام، فإن ذلك لن يُحسب ضدّها لأن بذلك تكون قد ضمنت أخيراً وقف الحرب في غزة، أو تكون قد أجبرت العدوّ على وقف عدوانه، وهذا يسري أيضاً على المقاومة في لبنان. أما المزايدون والمتحاملون، فهم هم، منذ 1967. ما كان على عبد الناصر أن يعيرهم أي اهتمام ولا يمكن أن تدخل ردود فعل هؤلاء في عمليّة صنع القرار المعقّد.
إنّ جلوس المنطقة على حافّة البركان مرتبط بوجود إسرائيل. لا تقوم قائمة لإسرائيل إلا بتركيع المنطقة التي حولها. لبنان عاش منذ 1948 راكعاً خانعاً ذليلاً من دون سيادة. على العكس، كان جيشه وقوى أمنه يعملان لحساب إسرائيل لمنع أي عمل يزعجها، ولو كان سياسيّاً (الجيش اللبناني كان يردّ الفائزين في الكليّة الحربيّة إذا كانوا متعاطفين مع الأحزاب الوطنيّة—وسمعتُ ذلك من الرئيس إميل لحّود شخصيّاً). القوّة لا يمكن إلا أن تكون أقوى للدولة وللمجتمع من الضعف، إلا إذا عدنا إلى مقولات شارل حلو وبيار الجميّل.