دولة الإبادة والإمبريالية
وسام رفيدي – وما يسطرون|
في محطات عدة من الصراع العربي ــ الصهيوني، والفلسطيني ــ الصهيوني، عمل العدو الصهيوني كذراع ضاربة للإمبريالية العالمية، والأميركية خاصة، في الوقوف ضد حركة التحرر العربية والفلسطينية، الأمر الذي قاد إلى استنتاج منطقي مفاده أن خطر المشروع الصهيوني يتجاوز فلسطين ليطال المنطقة العربية ككل، فيما غدا منطقياً أن يطلق القائد الراحل د. جورج حبش على الكيان الصهيوني، الإمبريالية الصغرى، كنتاج لدوره الإقليمي الضارب. في عام 1956، كان العدو حاضراً في العدوان على جمهورية مصر العربية، الممثل الرئيسي لحركة التحرر العربية حينها، وفي عام 1967 هزم ثلاثة جيوش عربية في ستة أيام، لتكون ليس فقط هزيمة مدوية بل عاراً موصوفاً.
وفي عام 1973، قاتل على جبهتين لأقل من شهر، ليجني الثمن لاحقاً بخروج مصر من الصراع العربي/ الصهيوني. وفي عام 1982، نجح بترحيل مقاتلي الثورة الفلسطينية من لبنان، لتلحق بالثورة هزيمة عسكرية. وطوال مدة الصراع، نجحت ذراعه بأن تطال بالضرب في تونس والعراق وإيران والسودان، إمّا بعمليات عسكرية كقصف مقرّ الراحل عرفات في تونس، أو تدمير المفاعل في العراق، أو القصف المتواصل لأهداف في سوريا، أو عبر عمليات اغتيال وتخريب كما في إيران.
في كل تلك المحطات، كان العدو الصهيوني يحقق نجاحات ضد الجيوش الرسمية، ويسجل اختراقات استخبارية وعملياتية مهمة، باستثناء هزيمة محقّقة على الجبهتين المصرية والسورية بداية حرب الـ 73، وصمود بطولي لمقاتلي الثورة في عام 1982 في لبنان.
كل ذلك عزز من مقولة «الجيش الذي لا يقهر» التي أطلقها العدو على نفسه كصفة لصيقة به تلعب دوراً محورياً في الوعي الشعبي عبر تشكيل مدخلات الهزيمة فيه، وتحوّلها إلى مقولات تلتقي عند جملة أساس «احنا مش قدهم يا عمي»، جملة تختزن عقدة نقص يلفها إعجاب.
ولكن منذ عام 2000، ولاحقاً 2006، وإنجازات المقاومة الإسلامية، وقبلها نشوء جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية في بيروت والجنوب، وتحقيق دحر المحتلين في النهاية، حفّز السيد نصر الله على الإعلان، وبصريح العبارة، أن الكيان أوهن من بيت العنكبوت.
لم يكن ذلك الإعلان/ التقرير ليروق للكثيرين الذين استدخلوا الهزيمة وعقدة النقص، فتحولت تلك الهزيمة المستدخلة إلى مدخل نظري لتقرير مواقف سياسية. أما آخرون، وكاتب هذه المقالة منهم، اعتبروا أن ذلك الإعلان/ التقرير، يقع في إطار متطلبات التحريض السياسي والتعبئة، ما دون التحليل الواقعي لمديات قوة العدو، تلك المتطلبات التي يتقنها السيد بكاريزميته وخطابيته.
لم تعد «حقيقة قوة» العدو بمسلّم بها، فأن يحشد كل هذا دفاعاً عن مجتمع وكيان المستوطنين يعني أن هذا الكيان لا يمكنه حماية نفسه
معركة «الطوفان»، وما تلاها حتماً حتى اللحظة، يجب أن تُعيد النظر بكل ما يتعلق بقوة العدو، لتزكّي إعلان/ تقرير السيد بأن الكيان فعلاً أوهن من بيت العنكبوت، من دون الغرق برهانات صبيانية انفعالية، وكأن التحرير قاب قوسين أو أدنى.
نحن أمام عدد من الظواهر السياسية والعسكرية والمجتمعية على عدة مستويات، تؤكد ما ذهبنا إليه حول مديات قوة العدو ومجتمعه. حسبنا الظواهر العسكرية في هذه العجالة: العملية الفدائية في السابع من أكتوبر حطمت بضربة موجعة مكانة الجيش والتفاف المستوطنين حوله، ووجهت ضربة لقدراته العسكرية والاستخبارية والأمنية. فنحن أمام فرقة غزة وجموع مستوطنين ومراكز للشرطة كلها تنهار في 6 ساعات. فرقة غزة (تقدّر بـ 3500 عنصر) تدمرت تماماً، وجنودها وضباطها وقعوا بين أسير وجريح وقتيل. كان ذلك بداية الإعلان عن بؤس مقولة «الجيش الذي لا يُقهر».
أما الظاهرة الثانية، فهي نجاح المقاومة بفرض حرب استنزاف غوارية، لم يتوقع لا الأعداء ولا الأصدقاء قدرة المقاومة على القيام بها وعلى مدى أكثر من عشرة أشهر حتى الآن. نحن أمام مقاومة محاصرة ومطوقة منذ عشرات السنين، وخصوصاً منذ 8 أكتوبر ما يعنيه ذلك من محدودية القدرات العسكرية، معدات وذخائر وتصنيع وتدريب وتخزين ونقل وتخطيط وتوجيه، ومع ذلك، وعلى مدى أكثر من عشرة أشهر تصمد المقاومة وتقاتل وتوقع خسائر جدية عند العدو بحيث لم يعد متر واحد في القطاع بمأمن من ضرباتها، وبعضها إعجازي بمعنى الكلمة. تلك ضربة أخرى أصابت ولا زالت تصيب مقولة «الجيش الذي لا يقهر».
أمّا الظاهرة/ الضربة الأخيرة فهي الهرولة العسكرية للإمبرياليات الأميركية والأوروبية لإنقاذ جيش العدو من ضربة إيرانية لبنانية، متوقع لها أن تكون موجعة وقاسية كما أعلنت إيران وحزب الله. في نيسان تطلّب الأمر 5 دول إمبريالية تسخّر قواعدها ودفاعاتها الجوية وقدراتها الاستخبارية، وبالتعاون مع أنظمة عربية تابعة، لمجابهة مسيّرات وصواريخ إيران، ومع ذلك نجح بعضها بالوصول إلى هدفه: قاعدتين عسكريتين للقوات الجوية في النقب.
أمّا اليوم، فالأمر مختلف تماماً، فإيران وحزب الله أعلنا بوضوح أن الرد هذه المرة أكبر وأكثر إيلاماً وقسوة، فيما حزب الله أبلغهم رسالة علانية ذات مغزىً، أن ضرب كل المراكز الصناعية في الشمال لا يستغرق أكثر من نصف ساعة في تأكيد على جدية الرد. لذلك استشعر العدو، ومعه مشغلوه من الإمبرياليات، خطورة الوضع، فحشدوا حاملات الطائرات، والبوارج الحربية، وزادوا عديد القوات في قواعدهم في المنطقة على أراضي الأنظمة التابعة، ومولوا الكيان بسرعة بـ 3.5 مليارات دولار لتغطية طلبات تسليحية.
لم تعد «حقيقة قوة» العدو بمسلّم بها، فأن يحشد كل هذا دفاعاً عن مجتمع وكيان المستوطنين يعني أن هذا الكيان لا يمكنه حماية نفسه. كان يمكنه فعل ذلك أمام جيوش نظامية لم تتخذ قراراً حقيقياً، تسنده إرادة حاسمة بالقتال، فظهرت قوته نسبة لضعف وعجز وانعدام إرادة القتال لدى الأنظمة العربية، أمّا حينما توفر ذلك لدى محور المقاومة فقد ظهرت حقيقة هشاشته وضعفه، فالمحور إذ يعلن إرادة القتال ويتجهز لها فليس أمام هذا الكيان إلا العويل والإرباك والتخبط، فيتطلب الأمر حشد الإمبرياليات لقواتهم لإنقاذه.
تلك حقيقة تاريخية أكدتها معركة «الطوفان» وتداعياتها منذ أكثر من عشرة أشهر، وهي كفيلة بتغيير النظرة إلى علاقة الكيان مع الإمبريالية العالمية، من ذراع ضاربة إلى كيان هش يستدعي تلك الإمبرياليات لحماية وجوده أساساً. وتلك حقيقة تعيد النظر بالمستدخل الثقافي المسنود بالدونية وعقدة النقص لبناء وعي بديل عنوانه: يمكن هزيمة العدو وتحرير الوطن من المشروع الصهيوني برمّته.