واشنطن دائماً وأبداً!

سعد الله مزرعاني – وما يسطرون|

فوراً، ومن خارج السياق والمنطق، وحتى المزاج، أعلنت الإدارة الأميركية، على لسان الرئيس بايدن ووزير خارجيته، أن «صفقة الرهائن تحرز تقدماً» وأنه من الممكن استئناف التفاوض، وأن الوفد الإسرائيلي يبدي تجاوباً! حصل ذلك، هذه المرة، بعد ساعات قليلة من إقدام العدو الصهيوني على تنفيذ عمليتي اغتيال في الضاحية الجنوبية لبيروت، ضد القائد العسكري في «حزب الله» فؤاد شكر، وفي طهران، ضد قائد «حماس» رئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية.

بدا كما لو أن عملية الاغتيال هي مجرد شائعة، وكأن الطرف الإسرائيلي لم يعلن مسؤوليته عن الأولى، ولم يحتفل بالثانية (ولو تفادى أو أجّل الإعلان، رسمياً، عن مسؤوليته عن اغتيال المسؤول الأول في طرف يخوض معه عملية تفاوض ولا يزال). كان بديهياً الربط بين هذا التصعيد الكاسر لقواعد الاشتباك القائمة، ونتائج زيارة رئيس الحكومة الإسرائيلية لواشنطن وتنظيم استقبال صاخب له في الكونغرس الأميركي بترتيب وضغط من اللوبي الصهيوني في واشنطن. هذا الأخير، وضع كل وزنه ونفوذه الكبيريْن، في الولايات المتحدة، في خدمة حكومة المتطرفين في الكيان الصهيوني، عموماً، وخصوصاً في خدمة رئيسها المتطرف الأكبر والأعرق بنيامين نتنياهو.

دشّن هذا التصريح النشاز (والذي يتكرر مضمونه يومياً للخداع والإيهام بقرب إنجاز صفقة) إطلاق حملة واسعة من الشائعات والاتصالات والضغوط ذات وظيفتين: 1) التحذير من رد كبير يشعل «حرباً واسعة وذات طابع إقليمي». 2) إطلاق وتحريك حشد عسكري كبير بهدف معلن هو مساعدة تل أبيب في التصدي لأي عملية رد، بذريعة حقها في «الدفاع المشروع عن النفس» في وجه إيران وحلفائها والفلسطينيين الذين استُهدفوا بالعدوان موضوع الرد.

من حيث المنطق والواقع، أطاحت عمليتا الاغتيال، عمداً، باحتمال عدم «توسعة الحرب»، بل هما استدرجتا حرباً إقليمية، وحتى دولية، تحاول حكومة إسرائيل، بشكل ملحّ وبالغ الوضوح، توريط واشنطن فيها، تفعيلاً واستغلالاً لمبدأ أميركي «مقدّس» ومكرَّس في سجلّ كل الإدارات الأميركية: حماية إسرائيل في كل الظروف والأوقات، مهما كانت مسؤوليتها عن التصعيد والتفجير والعدوان، سواء في الداخل الفلسطيني، أو حيال الدول العربية، أو غير العربية، القريبة أو البعيدة.
بات حجم «القدر الإسرائيلي» في سياسات الإدارات الأميركية، موضع تساؤل واستهجان. لقد تجلّت نتائجه، في الكثير من الحالات، بالإطاحة بمنطق العلاقة السائد بين الأصل والفرع، والكبير والصغير، والتابع والمتبوع. هذا النوع من العلاقة قديم ومتجدد في كل أزمة أو مأزق إسرائيلي، على وجه الخصوص. ينطبق ذلك، بالتأكيد، على الوضع القائم منذ عشرة أشهر إلى الآن نتيجة لعجز حكومة وجيش العدو عن تحقيق أي انتصار جدّي بسبب ضراوة المقاومة وتعدّد الجبهات واستطالة الحرب. في السياق، كانت واشنطن تتدخّل لتمكين إسرائيل من الانتصار أو لتجنيبها الهزائم: بدايةً «حرب العبور» عام 1973، حرب تموز عام 2006، حرب غزّة الحالية التي تحولت، خصوصاً بفعل البطولة والشجاعة والمبادرة الفلسطينية، إلى حرب «وجودية» تهدد الكيان كما لم يحصل منذ تأسيسه الاغتصابي قبل أكثر من 3/4 قرن.

إنّ غرابة هذه العلاقة تجد أحد أبرز أسبابها في النفوذ الهائل والاستثنائي للوبي الصهيوني في أبرز مراكز القرار والمؤسسات وحقول التأثير والتوجيه، في الولايات المتحدة، حتى قال بعض حكام الكيان الصهيوني: «أميركا تحكم العالم ونحن نحكمها!».

تدير واشنطن اتصالاتها وضغوطها ومناوراتها، كما أسلفنا، تحت عناوين: تدارك التصعيد، تخفيف التوتر، احتواء الأزمة، عدم توسعة الحرب… وهي في المرحلة الراهنة، كما في السابق، تلجأ إلى الكذب والتضليل والخداع والتهديد وإطلاق الشائعات والوعود. يضاف إلى ذلك، في هذه المرحلة من تفاقم عجز العدو وخسائره وانقساماته، ادّعاء بأنها غير موافقة على بعض مواقف أو قرارات أو مغامرات إسرائيل، وأنها، حتى، ليست على علم بها من الأساس!

لا تحترم واشنطن عقول الناس ولا ذكاءهم، ولا، حتى، ذاكرتهم القريبة، فضلاً عن البعيدة. بعد عمليتي الاغتيال، لم تدن ولم تستنكر. وفي خلال وطيلة المقتلة الرهيبة الإبادية ضد شعب غزّة خصوصاً، اكتفت بالمطالبة، من قبيل امتصاص النقمة والاحتجاج، بضرورة إلحاق ضرر «أقل» بالمدنيين. وحين تستهدف إسرائيل مؤسسات الأمم المتحدة (الأونروا) خصوصاً وتصفها بالـ»إرهابية»، تسارع واشنطن وحليفاتها إلى قطع التمويل عنها دون تدقيق أو تحقيق.

وحين ترتكب تل أبيب جرائم موصوفة ضد الصحافيين وعمّال الإغاثة الدولية تزعم بأن العدو قد بدأ تحقيقاً لتبيان الأسباب ولعدم تكرار الحادثة. وحين يصوّت «الكنيست» الإسرائيلي رفضاً لقيام دولة فلسطينية، تتاجر واشنطن نفسها بالترويج لها تحت شعار «حل الدولتين»، لا تتردد في استخدام حق النقض إذا جرت محاولة لإقرارها في أي محفل دولي. وحين طالب مدّعي عام «المحكمة الجنائية الدولية» بإصدار قرار ضد نتنياهو، وصف الرئيس بايدن (وكان لا يزال في كامل لياقته الذهنية!) القرار، بـ»المشين»!

لقد «طبخ» نتنياهو، أخيراً، خطط جرائمه التصعيدية في كواليس الكونغرس الأميركي، وبالتنسيق مع الأجهزة الأميركية الرسمية التي صمتت كالعادة كما صمت بايدن بعد انتخابه منذ حوالي أربع سنوات، على قرارات ترامب بالاعتراف بضم القدس ويهودية الدولة وشرعنة المستوطنات وضم الجولان السوري، خلافاً لقرارات المؤسسات الدولية ولـ»اتفاقية أوسلو» التي ضغطت واشنطن من أجل إبرامها واحتكرت دور «الوسيط» بشأن (عدم) تنفيذها!

توجّه واشنطن سهام خداعها إلى الرأي العام العالمي لتخفيف خسائرها «الأخلاقية» عن دعمها لـ»حرب الإبادة» الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني. وهي تحاول، أيضاً، تدارك بعض إحراج تابعيها ممن تواصل مطالبتهم بالسكوت عن الجرائم الإسرائيلية، وحتى، بالدفاع عن العدو سياسياً وعسكرياً. ووسط هذه الجوقة أو الورشة من الخداع والنفاق والتخدير والتهديد، والتصعيد الإسرائيلي، لا تجد حرجاً في إعلان استئناف تصدير القنابل «الفتاكة» بذريعة «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»
تذكّرنا واشنطن، كل يوم، دون خجلٍ أو وجل، بأنها راعية وحامية المعتدين الصهاينة، وأنها تقوم بدور هائل لإنجاح مشروعهم التوسعي الإرهابي الوحشي، لتحويل الكيان الغاصب إلى قوة إقليمية عدوانية، تكون، في الوقت نفسه، أداة أساسية لتعزيز الهيمنة الأميركية على المنطقة، كجزء من مشروع هيمنتها الإمبريالية الكونية الشاملة.
من هنا تبدأ الاستنتاجات والمهمات: تأسيساً لأي مشروع تحرري، أو إسهاماً فيه.

قد يعجبك ايضا