مأزق نتنياهو وحتمية الحـرب الشاملة
معين الرفاعي – وما يسطرون|
في خطابه أمام الكونغرس الأميركي، ذكّر نتنياهو مستمعيه بأن كيانه هو خطّ الدفاع الأوّل عن الغرب، وعن الولايات المتحدة الأميركية تحديداً، ساعياً إلى الحصول على تفويض أميركي بشنّ معركة شاملة على ما سمّاه المحور الإيراني في المنطقة. ورغم 81 مرة من التصفيق، استغرقت نحو نصف مدّة الخطاب، إلا أنّ لقاءات نتنياهو مع كلّ من الرئيس الأميركي جو بايدن ونائبته كامالا هاريس، أجهضت محاولاته ومساعيه. كانت هاريس واضحة في أنها لن تسكت بعد الآن عن المعاناة الإنسانية في غزة، رغم إعلان دعمها الكامل للكيان. ومارس بايدن كلّ الضغوط الممكنة «لإقناع» نتنياهو بالتوصّل إلى صفقة لوقف إطلاق النار في غزة قبل نهاية مدة ولايته، حسبما نقلت عدد من الصحف الأميركية.
حتى لقاء دونالد ترامب بنتنياهو لم يكن بمستوى رهان الأخير عليه؛ ترامب كان قد استبق اللقاء مع نتنياهو بتصريح طالب فيه نتنياهو بإنهاء الحرب في غزة قبل عودته إلى البيت الأبيض.لم يجد نتنياهو في واشنطن ما كان يسعى إلى الحصول عليه؛ بل وجدها مشغولة بالمحاولة الفاشلة لاغتيال ترامب، وبجهود تثبيت ترشيح هاريس بديلاً لبايدن عن الحزب الديموقراطي. ولديها من المشكلات في أوكرانيا ما يجعلها أبعد ما تكون عن التورّط في حرب جديدة قد تطال الشرق الأوسط برمّته. وهي تعلم بأنّ روسيا والصين لن تضيّعا فرصة حرب تغرق فيها الولايات المتحدة في رمال الشرق الوسط من دون أن تستنزفا قوّتها.
يدرك نتنياهو جيّداً، حتى قبل ذهابه إلى واشنطن، أنّ عودته خالي الوفاض منها يعني أنّ مستقبل الكيان قد انزلق في مسار التفكّك والاندثار. يميل البعض إلى تصوير تحرّكات نتنياهو على أنها مناورات تهدف إلى الحفاظ على موقعه السياسي وخشيته من الذهاب إلى السجن. ولئن كان هذا صحيحاً جزئياً، إلا أن نتنياهو يدرك أكثر من غيره التحدّي الإستراتيجي الذي فرضته معركة «طوفان الأقصى» على الكيان. فالموافقة على وقف إطلاق للنار في غزة، من دون تدمير «حماس» والقضاء عليها، أو حتى الخروج بصورة نصر منها، تعني أن الجيش الصهيوني قد فشل في مهمّته. وهذا الفشل أمر لا يستطيع الكيان تحمّله، بسبب طبيعة بنية الكيان القائمة على أساس أن المؤسسة العسكرية هي عمود خيمة الكيان الذي من دونه ينهار التجمّع الاستيطاني في كامل فلسطين.
وصل الاحتقان داخل الكيان مستوى تجاوز مرحلة التنافس السياسي الديموقراطي.
إنّ مشهد هجوم مستوطنين مقنعين مسلحين، مدعومين من الشرطة على ضباط وأفراد الشرطة العسكرية، الذين اضطروا إلى وضع أقنعة بدورهم، في معسكر سديه تيمان في النقب والمحكمة العسكرية في اللد، يحمل في طياته الكثير من نذر حرب أهلية داخلية تدقّ الأبواب بقوّة. يدرك نتنياهو أكثر من غيره أن الخروج من غزة من غير صورة انتصار «مطلق» و«كامل» لا يعني مجرد هزيمة في معركة، بل يعني أن مسلسل الانهيار في الكيان سيكون له تأثير الدومينو.
قبيل عودته إلى مطار اللد، كان نتنياهو قد أعدّ العدّة جيّداً لجرّ الجميع، بمن فيهم وفي مقدمتهم الإدارة الأميركية، إلى حرب إقليمية باعتبارها المخرج الوحيد الذي يتيح للكيان تحسين وضعه الإقليمي في المرحلة القادمة، بعدما أغرقته غزة في وحولها، وسلبته ما تبقّى من قدرة ردع متبقّية من سنوات المعارك الكثيرة مع غزة.
وبعدما أعادت مجزرة مجدل شمس تثبيت التوازن بين نتنياهو ووزير حربه يؤاف غالانت، الذي كان نتنياهو يعدّ العدّة للإطاحة به، في صناعة القرار السياسي، ضرب نتنياهو في الضاحية الجنوبية في بيروت، مستهدفاً قائداً عسكرياً من الصفّ الأوّل في حزب الله، هو الشهيد فؤاد شكر. ثم ضرب في قلب طهران، مستهدفاً رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، الشهيد القائد إسماعيل هنية. وبعد ساعات ضرب في العراق، وقيل إنه مسؤول عن التفجير الذي حدث في مقام السيدة زينب في دمشق بعد ذلك بساعات. وقبل ذلك بأيام كان قد أغار على ميناء الحديدة في اليمن. استدعى نتنياهو ردود الفعل من كل الجبهات، لأنه يعلم يقيناً بأن ذلك وحده من شأنه أن يجرّ الإدارة الأميركية للدفاع عن الكيان رغماً عنها.
من المشكوك فيه أن يستجيب نتنياهو للضغوط الأمريكية بإبرام اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة، لأن ذلك يعيده إلى المربع الأول
ما هو ليس واضحاً بالضبط هو لماذا توقّف نتنياهو عن توجيه المزيد من الضربات في الأيام الماضية: هل لقناعته بأن الردود ستأتيه تباعاً بعدما وضع الجميع في الزاوية، وليس أمامهم سوى الردّ، وما عليه سوى الانتظار ليعلن الحرب في كل اتجاه؟ أم بسبب ما يُقال عن ضغوط أميركية في مستواها الأقصى تمارس عليه؟!
لا شكّ في أن إيران وحزب الله ملزمان بالردّ، ليس من الناحية الأخلاقية فقط، بل من الناحية الإستراتيجية أيضاً. باستهداف هنية، تحدّى نتنياهو الجمهورية الإسلامية في إيران في عقر دارها؛ فهنية لم يكن قائد حركة مقاومة حليفة لإيران فقط، بل كان كذلك في زيارة رسمية، وبضيافة الجمهورية. واستهداف شكر في الضاحية الجنوبية لبيروت هو خرق فاضح لقواعد الاشتباك. ولئن كان الردّ الإيراني على السفارة الإيرانية في دمشق، في نيسان الماضي، والردّ على استهداف الشهيد الشيخ صالح العاروري في الضاحية الجنوبية في كانون الثاني الماضي بقصف قاعدة عسكرية في الشمال الفلسطيني المحتل، هدفهما تثبيت معادلات الردع، فإن الردّ هذه المرة لا بدّ وأن يكون هدفه العقاب والتأديب.
انتخاب السنوار رئيساً للمكتب السياسي لحركة حماس كان رسالة قوّة إلى الكيان، وضربة شديدة الوطأة للمنظومتين السياسية والاستخبارية. نجاح «حماس» في إجراء انتخابات داخلية، في الداخل والخارج، يعني أن شبكة الاتصالات والهيكليات التنظيمية للحركة لا تزالان تعملان بكفاءة عالية، ولم تنل منهما حرب إبادة مستمرّة منذ عشرة أشهر. كما أن اختيار السنوار بذاته، الموجود داخل غزة، لا تعني أنه حي يرزق فقط، بل تعني أيضاً أن الحركة في قطاع غزة قادرة على أداء مهامّها السياسية جنباً إلى جنب المهامّ العسكرية والميدانية التي تؤدّيها في ظلّ أشرس حرب بين المقاومة والكيان.
من المشكوك فيه أن يستجيب نتنياهو للضغوط الأميركية بإبرام اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة، لأن ذلك يعيده إلى المربّع الأوّل. كما أنّ إحجامه عن شنّ مزيد من الضربات الاستفزازية، بغض النظر عن سبب ذلك، يعني أنّ الضربات الأخيرة لم تستعد قدرات الردع لدى الكيان، رغم الإشاعات التي تبثّها وسائل إعلامه باستعداده لتوجيه ضربات استباقية في كلّ من إيران ولبنان. لقد بات نتنياهو أسير المخرج الوحيد: الحرب الشاملة. ومن المشكوك فيه أن يضيع نتنياهو هذه الفرصة التي استطاع عبرها حشد حلفائه وخصومه في مواجهة قد لا يسمح له التاريخ بتكرارها.
يدرك قادة المقاومة المأزق الإستراتيجي لكلّ من نتنياهو والكيان؛ ولئن كان الأسلوب الإيراني في الردّ، «الذي يذبح بالقطن»، ليس غريباً ولا جديداً، فإنّ سياسة الغموض التي اتسم بها خطاب السيد نصر الله أمس يوحي بأن نتنياهو قد يختنق بالحبل نفسه الذي أعدّه للمنطقة.
ومن المستغرب جدّاً موقف الدول العربية إزاء ما يحدث. يبدو النظام الرسمي العربي في غيبوبة كاملة إزاء حدث تاريخي مفصلي من شأنه خلط الأوراق في كامل المنطقة أو إعادة ترتيبها على أسس جديدة. في اللحظة الحالية، وصل التوتّر بين مشروع المقاومة ومحورها، وبين مشروع الكيان ورعاته إلى ذروته، في حين لا تمتلك الدول العربية، مجتمعة ومتفرقة، رؤية إستراتيجية ولا مشروعاً سياسياً. لقد تخلّى النظام الرسمي العربي حتى عن مبادرة القمّة العربية في بيروت 2002، التي تقوم على أساس دولة فلسطينية مقابل التطبيع الكامل. يحدث هذا في ظلّ قمع غير مسبوق للشعوب العربية من قبل أنظمتها تجاه واحدة من أقدس قضايا هذه الشعوب، هي القضية الفلسطينية والمسجد الأقصى المبارك. وهو ما قد يتحوّل في لحظة ما إلى خطر على الأنظمة العربية ذاتها. في وضع كهذا، ستجد الأنظمة العربية نفسها، عاجلا أم آجلاً، ملحقاً بأحد المعسكرين: إمّا معسكر فلسطين ومقاومتها، وإمّا معسكر الاحتلال وداعميه. يبدو أنّ بعض الدول العربية قد حسمت أمرها سلفاً.