كل شيء مختلف هذه المرّة قياساً بما كان عليه عند استهداف كيان الاحتلال القنصلية الإيرانية في دمشق.
فمن الزاوية السياديّة طال الاعتداء الإسرائيلي هذه المرّة العاصمة الإيرانية طهران وليس قنصلية أو سفارة إيرانيّة في الخارج تعتبر جزءاً من الأراضي الإيرانية، والمستهدَف ليس مسؤولاً إيرانياً عسكرياً ضمن هيكليّة الدولة تملك إيران قدرة رسم السقوف المناسبة للانتقام لدمائه، خصوصاً في حالة حرب تعيشها سورية، بل هو ضيف كبير في مناسبة دبلوماسية علنية هي تنصيب رئيس الجمهورية المنتخب.
والاعتداء يأتي هذه المرة بعدما أظهرت إيران عزمها على الرد على أي اعتداء يستهدف رموزها ومؤسساتها السيادية ويصيب مهابتها وسيادتها، بينما كان استهداف القنصلية وسط توقعات معاكسة لجهة إرادة الرد لدى إيران.
هذه الفوارق تجعل من كان متردداً في اتخاذ موقف من استهداف القنصلية بداعي تداخل الأمور والتباسها عليه، مطالباً بموقف واضح من الاعتداء الحالي.
ومن كان ينظر للرد الإيراني المفترض يومها كتهويل إعلامي يقوم على مبدأ الاحتفاظ بحق الرد اللاحق، ولا يتعامل بجدية مع خطر التدحرج بفعل التحرش الاستفزازي بإيران نحو حرب كبرى أن يسارع للتعامل مع التهديد بالرد هذه المرة ككرة نار حارقة خطيرة تتدحرج أمامه، ومن كان يتصرّف بأحادية التزامه بالوقوف مع كيان الاحتلال باعتبار ذلك أمراً تقليدياً في سياسته الخارجية أن يقيم حساباته جيداً قبل التورط في مواقف سياسية تقدم الغطاء للعدوان او التورط أكثر بمواقف عملية تحت شعار تمكين كيان الاحتلال من التصدي للرد الإيراني.
إن مقارنة بسيطة بين طريقة التصرف والسلوك من جانب واشنطن في كل من حادثتي استهداف القنصلية واستهداف طهران، تقول إن واشنطن تعرف اليوم أن استهداف طهران ليس امتداداً لسجال ناري قائم في سورية، وأنه تمادٍ كبير على عاصمة دولة تمثل ثقلاً إقليمياً وقد أظهرت جدية في استخدام قوتها للدفاع عن مهابتها ومكانتها، وقد سبق للرئيس الأميركي جو بايدن أن خاطب الإسرائيليين بقوله إنه لولا الحماية الأميركية لكان الدمار نصيب «إسرائيل» بفعل الرد الإيراني.
ورغم ذلك فإن واشنطن التي أصدرت عدة بيانات ومن معظم مسؤوليها السياسيين والعسكريين للتبرؤ من أي دور في ضربة القنصلية الإيرانية تعاملت باستخفاف مع حادث جلل بحجم استهداف طهران وقتل قائد سياسي كبير هو المسؤول الفلسطيني الأول رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الشهيد إسماعيل هنية، وبينما بقيت واشنطن تراقب الوضع بعد الإعلان الإيراني عزمها الردّ على استهداف القنصلية حتى قالت إنها ستتحقق من قدرة «إسرائيل» على حماية نفسها بوجه الرد الإيراني، كان رد فعلها الأساسي هذه المرة هو إعلان استنفار كل جيوشها وأسلحتها والدفع بها إلى المنطقة للوقوف إلى جانب الكيان، بل إن واشنطن تعمّدت إضاعة الفرصة التي أتاحها توجّه ايران نحو مجلس الأمن الدولي لمناقشة الاعتداء الذي استهدف عاصمتها وحوّل منبر مجلس الأمن الى منصة للهجوم على إيران، بدلاً من الذهاب الى البحث عن التهدئة وربط تحقيقها بوقف إطلاق النار في غزة.
التهديد الأميركي للاقتصاد الإيراني والاستقرار الإيراني، كما نقلت صحف أميركية عن مسؤولين كبار في إدارة بايدن، إذا كان ردّها على الكيان موجعاً وكبيراً، يضيف سبباً للقول إن واشنطن متورطة بالاعتداء على طهران وقتل القائد الفلسطيني الأبرز إسماعيل هنية، بمثل ما يقول إسراعها لمنح الكيان ما أسمته الدفاع عن النفس بعد ساعتين من تفجير مجدل شمس الذي قال جيش الاحتلال بعد ساعة أن حزب الله مسؤول عنه، بحيث تصبح هذه الجولة من التصعيد جولة واشنطن تنفذها تل أبيب بالأصالة عن نفسها ومحاولة للخروج من مأزقها، لكن وبالوكالة عن واشنطن، التي تريد مقايضة الاستقرار في المنطقة بصك شرعية لاحتلالها لسورية والعراق، وإغلاق الباب على المطالبة بانسحاب قواتها سواء عبر المفاوضات، أو من خلال العمليات التي تنفذها المقاومة، والمعادلة الأميركية هي حرب يرسم سقفها ما يستطيع تحمله جيش كيان الاحتلال وجبهته الداخلية، كما في أوكرانيا حرب يرسم سقفها قدرة تحمل الجيش الأوكراني، وكل حديث عن الوساطات هو جزء من الحرب النفسية والضغوط والتهديدات والمناورات لتمييع الرد وإجهاضه، ومثل لاعب البوكر تراهن واشنطن على أن الإيحاء بأنها آتية إلى جولة رابحة واثقة بما لديها، سيدفع باللاعبين الآخرين إلى الانسحاب عن الطاولة ولو كانت أوراقهم أقوى، لكن مشكلتها أن قادة محور المقاومة لا يلعبون البوكر، بل يلعبون الشطرنج، حيث لا مكان للتلاعب ولا للتذاكي ولا للحظ، بل للذكاء والحنكة والخبرة، وهذا هو زاد قوى المقاومة في حرب العقول، كما قال الطوفان ذات يوم.