انسحاب جو بايدن وصعود كامالا هاريس
أسعد أبو خليل – وما يسطرون|
إنّ عزوف جو بايدن عن خوض معركة ترشيح الحزب الديموقراطي سجّل سابقة في تاريخ الانتخابات الرئاسية الأميركية. صحيح أن الرئيس الأميركي لِندن جونسون عزفَ عن الترشّح لولاية ثانيه في عام 68، إلا أنه فعلَ ذلك بسبب تنامي المعارضة الشعبيّة لحرب فييتنام والتي ارتبط اسمه بتصعيدِها. الوضع الصحّي العقلي المتدهور لبايدن حالة لم يلحظها الدستور الأميركي. كيف تعزل رئيساً أميركياً وتقرّر مصير الحكم في البلاد بناءً على ظهور عوارض ضعف جسدي وعقلي عند الرئيس؟ يسمح واحدٌ من تعديلات الدستور (التعديل 25 الذي صدر في عام 1965 بعد الكثير من النقاش والمداولات الرسميّة والشعبيّة) للحكومة الأميركية باتخاذ قرار عزل الرئيس بالاتفاق بين نائب الرئيس وأعضاء في الحكومة. إلا أن ذلك مستحيل لأن الرئيس لا يعيّنُ إلا موالين له، ينصاعون لأوامره ولا يجرؤون على التلفّظ بنقدٍ له. وإمكانيّة قيام هاريس مع أعضاء في الحكومة بتحكيم التعديل 25 كان يمكن أن يقضي على حظوظ هاريس في خلافة بايدن: البعض في الحزب كانوا سيتهمونها بالتسرّع في خلافة رئيسها. وعوارض الوهن العقلي بدأت على بايدن في السنوات الماضية وحتى عندما كان يخوض معركة الترشيح الأخيرة في عام 2020، إلا أنّ الإعلام الليبرالي (والذي كان يناصرُ بايدن بقوة ومن دون أي محاولة للظهور بمظهر المحايد) أراد أن يتستّر عليه ويخفي نواقصه ومظاهر ضعفه. كان بايدن يتعثّر بالحديث ويختلط الأمر عليه وتتشوّش في ذهنه الأسماء والأماكن والمناسبات، إلا أن الإعلام أصرّ على أن ليس ذلك إلا نتيجة التأتأة التي عانى منها طفلاً، وهذا غير صحيح لأن بايدن عانى من التأتأة صغيراً وشُفيَ منها (كما أنني أنا عانيتُ منها صغيراً وشفيتُ منها). المؤسسة الحاكمة (وتضمّ الإعلام السائد، بالإضافة إلى المؤسسات العسكرية والاستخبارية) أرادت أن تتخلّص، وبأي طريقة من الطرق، من دونالد ترامب. ترامب شكّلَ خطراً حتميّاً على مؤسّسات الحكم والمفاهيم التقليديّة للأمن القومي. التخلُّص من ترامب تطلّب أن تعمد وسائل إعلام إلى تصوير بايدن على أنه فريد عصره في القيادة والكاريزما والقدرات الذهنيّة. وبايدن خاض معركة الترشيح الرئاسي للمرة الأولى في عام 1987 ولم يتقدّم فيها البتّة، لا بل إن المعركة توقّفت بسبب افتضاح أمره في سرقة خطاب من زعيم عمالي بريطاني (نيل كينوك)، بالإضافة إلى كشف المستور عن سنواتِه في الجامعة والتي بالغ في تصوير نجاحاتِه فيها أيّما مبالغة، كما أنه غشّ في الجامعة.
إنّ عزوف بايدن لم يأتِ من عنده، لذلك فإنّ كلّ التعليقات الغربية، وحتى اللبنانية السمجة، حول شجاعة هذا الرئيس أو حول أنه اختار مصلحة الوطن فوق مصلحته الشخصيّة ليس إلا كلاماً باطلاً لأن بايدن أرادَ الاستمرار في الحكم والاستمرار في الترشيح مهما كان. الذي فرضَ عليه العزوف هم القادة الحقيقيّون للمنظومة السياسية الأميركية، ألا وهم أصحاب المليارات، أي المتموّلون الحزبيّون، وهذا يسري في الحزبَين. المموّلون الكبار في الحزب الديموقراطي هم الذين قرّروا أن استثمارهم في بايدن لن يؤتي ثماره وأن الهزيمة ستلحق بالحزب الديموقراطي لو هو استمرّ في الترشيح. وهؤلاء المتموّلون يسيطرون على الحزب وعلى قادة هذا الحزب، وهم وثيقو الصلة باللوبي الإسرائيلي لأن الكثير منهم صهاينة يهود. ولم تصدر كلمات وتصريحات عن أعضاء في الكونغرس بمطالبة بايدن بالعزوف إلا بعدما بات واضحاً أن المتموّلين لن يستثمروا في ترشيح بايدن. عندها فقط، وبعد إشارات من فريق باراك أوباما الذي يبقى أقوى شخص في الحزب الديموقراطي، علمَ بايدن أن استمراره في الترشيح هو مغامرة مستحيلة، واضطرّ رغم أنفه إلى إعلان العزوف عبر منصّة «إكس» ولم يواجه الشعب الأميركي لأن القرار لم يأتِ عن اقتناع منه. ومن المعلوم أن التردّي الذهني والجسدي للمتقدّمين في السنّ لا يكون معلوماً منهم، وهذا قد يكون من حظوظ مرضى الخرف والألزهايمر. بايدن لم يقتنع بأنه كان هناك أيّ مشكلة مصيريّة وصحيّة في المناظرة، لا بل إن الكثير من الديموقراطيين تعاملوا مع المناظرة على أنها مشكلة في الأداء فقط وليست مشكلة أعمق تتعلق بصحة الرئيس وقدراته الذهنية. بايدن أقرّ فقط بأنه لم يكن مُجيداً في دوره في المناظرة.
وبعدما أعلن بايدن عزوفه، كان من المفترض أن يعقد الحزب الديموقراطي مؤتمره الترشيحي وأن يفتح المجال أمام ما يسمّى بـ«المؤتمر المفتوح»، أي أن يقوم مندوبو الحزب من كل الولايات بإعلان ترشيحات وأن يختار المندوبون مَن يفضّلون من بينها. لكن ساعات فقط فصلت بين توقّع إعلان «المؤتمر المفتوح» وقرارات الغرف المغلقة باختيار كامالا هاريس مرشحةً رسميةً للحزب الديموقراطي من دون انتخابات ومن دون منافسة ومن دون «مؤتمر مفتوح»، ومن دون فتح المجال أمام آخرين وأخريات لإعلان ترشيحاتهم. هذه هي حقيقة الديموقراطيات الغربية، وبالأخص الديموقراطية الأميركية التي تعتمد على نظام سياسي عتيق وعقيم ونخبوي، تماماً كما فصّله الآباء المؤسّسون. ليست المنافسة الحرّة والتصارع المحض بين الأفكار إلا إعلاناً دعائيّاً للنظام السياسي الأميركي. في الحقيقة، إن هناك ما يسمى هنا بـ«مجموعات قوة»، أو نفوذ، تعتمد على المال والتمويل وتسيطر على مقدّرات الحزبَين. والحزبان الحاكمان ليسا إلّا جناحَين للطبقة الرأسمالية الحاكمة في البلاد. هما يختلفان على تفاصيل السياسات الاقتصادية ويتفقان على شؤون الإمبراطورية وعلى نظام القهر الطبقي.
ليست كامالا هاريس المرشحة الجديدة مجهولة التاريخ والهوية السياسية. فهي سبقَ لها أن شغلت منصب وزيرة العدل في ولاية كاليفورنيا وعضوة في مجلس الشيوخ عن الولاية نفسها قبل أن يختارها بايدن نائبة للرئيس. وصعود كامالا هاريس لم يعتمد أساساً على الكفاءة والموهبة والجهد الجهيد. هي اعتمدت مبكراً على حظوة العلاقات والشبكات الشخصيّة، وعلى ما نسمّيه في لبنان بـ«الواسطة». الواسطة هي التي فتحت لها الأبواب الموصدة. وعلاقتها الوثيقة بالديموقراطي التاريخي، وِلي براون (الذي كان رئيس المجلس الاشتراعي في ولاية كاليفورنيا لسنوات)، سهّلَ لها الظهور في الحياة السياسية في الولاية. وعندما خاضت ترشيح الحزب الديموقراطي للرئاسة في عام 2020 بدت أقل المرشحين كفاءة وقدرةً واختصاصاً وإعداداً. في التقييم السياسي هي بالفعل كسولة: لا تحضّر للمناسبات ولا الخطب ولا تلمّ بالملفات. وفي مجلس الشيوخ، كان أداؤها يعتمد حصرياً على ما يكتبه لها العاملون والعاملات في مكتبها. وفي مناقشات اللجان المتخصّصة التي كانت عضوة فيها كانت نادراً ما تطرح سؤالاً من عندها أو تتفوّه بكلمة لا تكون مكتوبة لها سلفاً. هي من أقلّ الذين ظهروا في الحياة السياسية كفاءة. هي أقل كفاءة بكثير من رونالد ريغان أو جورج دبليو بوش وحتى من نائب رئيس جورج بوش الأب، دان كويل. الحزب الديموقراطي لم يجدْ مناصاً غير اختيار هاريس نائبة للرئيس مرشحةً لأنها امرأة ولأنها ملوّنة.
لن تكون كامالا هاريس مرشحة قويةً أبداً، بل هي ستكون هدفاً سهلاً لدونالد ترامب الذي سيسخر من ماضيها ومن ترقّيها السريع في سلّم الحزب الديموقراطي في ولاية كاليفورنيا
كان يصعب على الحزب التخلّي عنها لأن ذلك كان يمكن أن يعتبرَ مهيناً للهنود الآسيويين أو للسود، مع أن هاريس ليس لديها علاقة حميمة مع السود الأميركيين، وذلك بسبب سياستها عندما عملت وزيرة العدل في ولاية كاليفورنيا وكانت معروفة بالتشدد في العقوبات والتي غالباً ما تصيب السود والأقليات أكثر مما تصيب البيض.
لن تكون كامالا هاريس مرشحة قويةً أبداً، بل هي ستكون هدفاً سهلاً لدونالد ترامب الذي سيسخر من ماضيها ومن ترقّيها السريع في سلّم الحزب الديموقراطي في ولاية كاليفورنيا. وهي على منبر المناظرة ستكون على سوء يذكّر بمناظراتها عندما ترشحت للرئاسة. صحيح أن المموّلين الكبار يضخّون في ترسانتها ملايين الدولارات، وبأرقام قياسية، لكن هذا لا يكفي ليس فقط لأن الحزب الجمهوري سيتفوّق عليها في التمويل بل لأن المال وحده لا يكفي كعنصر في الانتخابات الأميركية كما أظهرت عالمة السياسة، جنفير ستين، في دراستها عن دور المال في الانتخابات. جوزيف بايدن سيختفي من الساحة ولن يكون له أي تأثير، كما أن مواقفه لن تؤخذ في الحسبان لأن انسحابه بصورة غير مباشرة جاء تأكيداً لتشخيص حالته الصحية العقلية المتدهورة. سيكون له حسابات ليُصفّيها – لو استطاع إلى ذلك سبيلاً – لكن وقته محدود. باراك أوباما أدّى دوراً أساسيّاً في دفع بايدن إلى الانسحاب، ومقالة جورج كلوني في «نيويورك تايمز» كانت مُنسَّقة على أقل تقدير مع ماكينة باراك أوباما الخطيرة.
أين ستقف كامالا هاريس بالنسبة إلى قضايانا؟ هذا من المبكر الحكم فيه، لكنها بسبب انتهازيّتها ووصوليّتها السياسية حافظت على علاقة وثيقة مع اللوبي الإسرائيلي وهي خطبت منبره أكثر من مرّة وبكلام متطرّف. لكنها حاولت في السنتَين الماضيتَين، ولأنها تقرأ الاتجاهات الجديدة في الحزب الديموقراطي أن تعبّرَ عن طموحاتِ الجيل الديموقراطي الشبابي عبر تخفيف لهجة مناصرة إسرائيل. ولأنها تفتقر إلى الكفاءة والخبرة والعلم والمعرفة، فإنها ستكون مثل الولاية الأولى لجورج دبليو بوش: كثيرة الاعتماد على فريقها المركزي في الحكم. لا علمَ لنا الآن بالشخصيات التي ستشكّل حكومتها بالنسبة إلى السياسة الخارجية، لكن مستشارها لشؤون الأمن القومي، فيليب غوردن، كتبَ كتاباً قبل سنتيْن ندّد فيه بسياسات الحكومة الأميركية في الشرق الأوسط وفي تغيير الأنظمة. وكتاب فيليب غوردن «خسارة اللعبة الطويلة: الوعد الباطل لتغيير الأنظمة في الشرق الأوسط» يخلصُ إلى أن كل محاولات التغيير التي تشنها أميركا في بلادنا تنتهي بنتائج غير متوقعة وبأثمان تفوق الأرباح وبفشل ذريع. إذا كان غوردن سيشغل منصب مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض لكامالا هاريس، فإن ذلك سيزيد من حثّها نحو الانكفاء. والانكفاء هو منحى الجيل الجديد من الديموقراطيّين. إن عدم خبرتها سيحدّ من الضغوط التي تتعرّض لها من أجل التدخل العسكري أو نشر القوات. لكن من السابق لأوانه الحديث عن الرئيسة كامالا هاريس لأن ذلك من المستحيلات. قد يكون أداؤها من السوء بمكان إلى درجة أن البعض في الحزب سيدعو إلى تنحّيها واستبدالها بآخر أو بأخرى. هذه سنة انتخابية غير عادية والمفاجآت متوقعة ودونالد ترامب سيعود، على الأرجح، إلى الساحة أقوى مما كان.