عودة الاغتيال السياسي إلى أميركا: خطر الحرب الأهليّة
أسعد أبو خليل – وما يسطرون|
العنف مُتأصِّل في تاريخ الولايات المتحدة. هي دولة تأسّست على العنف العام والشامل ضد السكّان الأصليّين، وزرعَ ذلك في ثقافتها السياسيّة إيماناً شبه مُطلق بجدوى العنف السياسي، في الداخل والخارج (أميركا كانت في حالة حرب في معظم سنوات تاريخها). وفي تاريخ الدول قاطبةً، شنّت الحكومة الأميركيّة من الحروب والتدخلات الخارجيّة أكثر من كل الدول الأخرى، بالرغم من أنها تنظر إلى نفسها نظرة مُغايرة. هي لا تتورّع عن رمي تهم العنف والإيمان بالعنف ضدّ العرب والمسلمين، مثلاً، بينما ليس هناك من أعمال عنف وحروب في النصف الثاني من القرن العشرين في الشرق الأوسط لم تكن الولايات المتحدة مشاركة فيها بصورة مباشرة أو عبر وكلاء وعملاء ومتعاقدين. وحتى الوحدة الجغرافيّة للبلاد ولمّ الشمل بين الشمال والجنوب فُرض بالقوة المسلّحة المُفرطة. السرديّة الليبراليّة عن الشمال في الحرب الأهليّة صورة رومانسيّة للغاية لأن الجنوب مرتبط في ذهن الليبراليّين بالعنصريّة والرقّ، لكن الشمال استعمل العنف المفرط والحرق المتعمّد كرسالة مقصودة لردع أيّ نزعات انقساميّة في البلاد. بين ١٨٣٠ و١٨٦٠ سُجّلت ٧٠ حادثة عنف بين أعضاء الكونغرس الأميركي (هناك كتاب لجوون فريدمان بعنوان «حقل من الدماء: العنف في الكونغرس والطريق إلى الحرب الأهليّة»). تسوية النزاعات الشخصيّة والدوليّة بالقوّة يحوز نسبة ليست صغيرة بين المُستَطلعين في الولايات المتحدة (النسبة تزيد عند الذكور منها عند النساء، ومرّة أجريتُ استطلاعاً بين طلابي في جامعة ولاية كاليفورنيا ووجدتُ أن نسبة تأييد العنف حتى في العلاقات الشخصيّة تحوز تأييد نسبة من الذكور). محاولة اغتيال ترامب ليست عرَضيّة، وهي تحفرُ في السياسة الأميركيّة وستكون لها عواقب ومضاعفات لسنوات مقبلة. اغتيال جون كنيدي ثم أخيه روبرت كنيدي غيّر الكثير في البلاد. ومحاولة اغتيال رونالد ريغان زادت من شعبيّته وأقنعت مؤيّديه بأنه محميٌّ من الله نفسه. محاولة اغتيال ترامب لم تأتِ من فراغ. عام ٢٠٠٠ كان عاماً فاصلاً في السياسة في أميركا. في تلك السنة، ارتسمت خريطة سياسيّة جديدة في البلاد: يحتفظ الحزبان بتأييد مطلق (بناءً على النظم الانتخابيّة التي تمنع النسبيّة وتعطي الولاية أو الدائرة لمن يحوز أكثريّة عادية غير مطلقة) في معظم الولايات ولا تجرى الانتخابات (حسب قانون انتخاب الرؤساء العقيم) إلا في عدد من الولايات التي تحسم المعركة بالنسبة للحصول على عدد الأصوات الاقتراعيّة التي تجعل من المرشح رئيساً للبلاد لأربع سنوات. في عام ٢٠٠٠، ترسّخت الخريطة السياسيّة بعدما عمل الحزبان بجدّ من أجل إعادة رسم الدوائر الانتخابيّة في الولايات التي يسيطر عليها حزبٌ من الحزبَين لضمان استمراره في تمثيل الولاية. هذا التلاعب بالدوائر جعل من المستحيل خرق السيطرة الديموقراطية أو الجمهوريّة في معظم الولايات. لكن الولايات المتأرجحة هي تلك التي يمكن أن تذهب ذات اليمين أو ذات اليسار (أو ذات الوسط لو أردنا الدقّة في توصيف أيديولوجية الحزب الديموقراطي).
محاولة اغتيال ترامب ليست عرَضيّة وهي تحفرُ في السياسة الأميركيّة وستكون لها عواقب ومضاعفات لسنوات مقبلة
في عام ٢٠٠٠، حصل آل غور على عدد أصوات شعبيّة (أي عدد أصوات مجمل الأميركيّين المقترعين في كل البلاد من دون اعتبار طريقة احتساب الأصوات وفق النظام الذي يُنتخب فيه الرئيس) يفوق عدد أصوات جورج دبليو بوش. كما أن المعركة، وفق القانون الانتخابي الرئاسي، حُسمت بمئات من الأصوات في ولاية فلوريدا فقط. وتأخّر احتساب الأصوات وإعلان الفائز، كما أن المحكمة العليا تدخّلت من أجل دفع الأمور باتجاه التسريع في إعلان النتائج (يخطئ الديموقراطيّون عندما يظنّون ويصرّون على أن آل غور كان يمكن أن يُنتخب لو أن المحكمة العليا سمحت بإعادة العدّ في كل الولاية. جريدة «نيويورك تايمز» استخدمت شركة لإعادة عدّ الأصوات في كل الولاية، وكان بوش الفائز فيها). لكن ٢٠٠٠ هي السنة التي فقدت فيها الانتخابات الرئاسيّة مصداقيّتها ربما للمرة الأولى في الانتخابات الأميركيّة. لم يسبق أن كانت النتائج متقاربة من قبل بهذه الطريقة، على الأقل في القرن العشرين. كانت النتائج دوماً حاسمة في أكثريّتها لمصلحة هذا المرشح أو ذلك. شكّك الحزب الديموقراطي بالنتائج وزاد التشكيك بكل نتائج الانتخابات وأصبح التخوين من الطرفَين شائعاً جداً، ومُحبَّذاً من قبل الطرفَين. الذي يُعلّم في الجامعة هنا، بات يلاحظ أن الانقسام بين الطلاب أصبح حاداً وقابلاً للتفجّر. في السنوات الماضية، أصبحت مضطرّاً إلى استهلال كل صف في الفصل الدراسي بكلام حول ضرورة الحفاظ على مدنيّة الخلاف السياسي وآدابه في الجامعة. كنت أشعر من موقعي بالكراهية المتبادلة بين الطلاب عندما يُعبّر طالب ما عن تعاطفه مع هذا أو ذاك. التسامح السياسي الأميركي تضاءل كثيراً عن سنوات الستينيّات عندما أصدر غابريل الموند وسندي فربا كتابهما الشهير «الثقافة المدنيّة» عن الثقافة السياسيّة بين خمسة نظم ديموقراطيّة. كانت الولايات المتحدة تنال آنذاك علامات عالية في التسامح: أي قبول الاختلاف. وكان الأميركي لا يجعل من الاختلاف السياسي سبباً للنزاع الشخصي مثلاً (كان واحد من الأسئلة التي تصنّف درجة التسامح السياسي حول إذا ما كان المرء يقبل بمصاحبة أو الزواج بشخص من الحزب الآخر. هذا أصبح من الممنوعات والتسامح يتناقض مع تصنيف الطرف الآخر بالخائن).
أقولُ، منذ سنة ومن دون مبالغة، إن الجوّ السياسي في أميركا يذكّرني بالجوّ السياسي الذي سبق بسنتين نشوب الحرب الأهلية اللبنانية. هناك عدة مظاهر للأزمة السياسية الحادة التي يمكن أن تتفجر عنفاً:
١) حالة استقطاب سياسي متطرّف حيث تتجمع الكتلتان السياسيتان حول طرفَي نقيض لا يجمع بينهما لا العَلَم ولا حب الوطن.
٢) زوال فريق الوسط في الكونغرس الأميركي، أي المحافظين في الحزب الديموقراطي والليبراليين في الحزب الجمهوري، هؤلاء شكّلوا صلة الوصل بين الحزبَين وأبقوا على التواصل في كل الأزمات في العقود الماضية قبل هذه الألفية. لم تعد الانتخابات تسمح بنجاح مرشحي الوسط في الحزبَين: إما أن تكون ليبرالياً ديموقراطياً أو أن تكونَ محافظاً جمهورياً، والويل لك لو أنك حاولت أن تنادي بوفاق بين الحزبين. هذه من الممنوعات، وسيمنعك ذلك من الفوز بترشيح حزبك مهما كانت الدائرة الصغيرة.
٣) انتفت الصحافة المستقلة أو المحايدة أو تلك التي كانت تختار لنفسها مسافة من صراعات الحزبين. كان بعض الإعلام يعطي مواد الإعلام من دون أجندة سياسية مجاهِرة. الإعلام، أو إعلام الحزبين، يؤجّجُ في الصراع وينفخُ في النار. الناس لم يعودوا يرغبون في مشاهدة إعلام يحلّل على طريقة: من ناحيةٍ ومن ناحيةٍ أخرى.
٤) تسييس مؤسسات الأمن والاستخبارات والقيادة العسكرية. نعلم اليوم أن رئيس هيئة الأركان المشتركة للقوات المسلحة الأميركية في آخر عهد ترامب تواطأ مع نانسي بيلوسي (رئيسة مجلس النواب) كي تقوم القوّات المسلحة، خلافاً للدستور، بدور يحدّ من سلطات الرئيس الأميركي المُنتخب شرعياً وقدراته. والتسريبات التي تملأ الصحف منذ انتخاب ترامب، وفي إدارة بايدن، كلها تصب لمصلحة الحزب الديموقراطي وتشير إلى انحياز صارخ من هذه الأجهزة ضد ترامب وضد الحزب الجمهوري.
٥) هيلاري كلينتون ودونالد ترامب مسؤولان عن حالة الانقسام العميق في الجسم السياسي الأميركي. ترامب رفض قبول انتخاب باراك أوباما وشكّك في أهليّته وحتى في حمله للجنسية الأميركية. واضطرّ أوباما إلى عرض وثيقة ولادته كي تسكت الحملة ضده آنذاك. وهيلاري كلينتون لم تتقبّل قطُّ هزيمتها في 2016. هي والحزب الديموقراطي نسجا حكاية ضلوع روسي مع ترامب من أجل الاستيلاء على الحكم هنا. أي أنّ أيّ نصر لترامب أو الحزب الجمهوري بات في عرف الديموقراطيين مخططاً روسياً عدوّاً. هذه الأجواء المعادية مسؤولة عن دفع شاب أميركي إلى محاولة قتل دونالد ترامب. هذا الشاب كان، في خلده، يقضي على مخطّط روسي يستهدف الديموقراطية الأميركية بذاتها. وسرّبَ الحزب الديموقراطي وحملة هيلاري كلينتون موادّ لا صحّة لها حول مؤامرة روسية مع ترامب. ومع أن التحقيق الذي أجراه محقق خاص في هذه القضية جزمَ بأنه لم يجد أيّ دليل، فإن الحزب الديموقراطي وجمهوره مصرّون على هذه النظرية. لو انتصر بايدن، فإن الحزب الجمهوري سيلوم أجهزة الأمن والقيادة العسكرية لتطويعهما النظام الانتخابي لمصلحة بايدن. ولو انتصر ترامب، فإن الحزب الديموقراطي سيلوم بوتين ويتّهمونه بأنه هو الذي نصّبَ ترامب رئيساً خلافاً لمشيئة الشعب الأميركي.
٦) لم يسبق أن حدث تدخل خارجي في الانتخابات الأميركية كما يحدث في هذه الأيام. في 2012 سجّل نتنياهو سابقة في دعم السيناتور ميت رومني بوجه باراك أوباما. واليوم تقوم أنظمة الخليج، من خلال إعلامها، بتبني ترشيح ترامب والسخرية من بايدن، فيما يستطيع نتنياهو أن يتعايش مع بايدن أو مع ترامب، وخصوصاً أن بايدن منحَ إسرائيل صكاً على بياض للقيام بحرب الإبادة. ولا يزال ترامب يحمل ضغينة ضد نتنياهو لأنه سارعَ إلى تهنئة بايدن في ٢٠٢٠، فيما كان ترامب لا يزال يشكّك بنتيجة الانتخابات.
هل هناك إمكانية حقيقية لتفجر نزاع أهلي مسلّح في الولايات المتحدة؟ الجواب يحتاج إلى التذكير بأن انتشار السلاح (ونتحدث هنا عن رشاشات وليس فقط عن مسدسات) يزيد من احتمال تحوّل الشجارات والاشتباكات إلى أعمال عنف واسعة النطاق. لو أن ترامب مات من جراء تلك الرصاصات قبل أيام، فإن جمهور الحزب الجمهوري كان سينزل إلى الشوارع والساحات بالسلاح والعتاد. الحرب الأهلية ليست حتميّة في أميركا، لكننا نقف في السنوات الماضية على عتبتها ولا يقوم أيّ من الحزبين بإجراءات لوقف التدحرج نحوها. بايدن والحزب الديموقراطي مصرّان على لصق تهمة الخيانة ضد ترامب، والجمهوريون وترامب يصرّون على أن الحزب الديموقراطي يأخذ البلاد نحو الهاوية ويضعها في أيدي مهاجرين ملوّنين. الحالة صعبة في أميركا، والغرب كلّه يعاني من ضيق البيض بصعود أقليّات ملوّنة. كما أن هناك حرباً ثقافيّة تفصل بين الليبراليّين الغربيّين والفاشيّين المستمرّين في الصعود السياسي. في أميركا، إن محاولة الاغتيال ستزيد من بيع السلاح ولن تؤدّي في سنة انتخابات إلى سنّ قوانين تحدّ من اقتناء السلاح لأن البيض من الأميركيّين (وهو عنصر فاعل جداً بحكم نسب الاقتراع) يقترعون ضد الذي يحاول أن يحدّ من حريّاتهم في اقتناء السلاح.