«طوفان الأقصى» وردّ الفعل الشعبي: أزمة جماهير أم نخب؟
علي الشاب – وما يسطرون|
أثير موضوع الحراك الشعبي العربي – الإسلامي، وتحديداً النزول إلى الشارع، تأييداً للشعب الفلسطيني بعد «طوفان الأقصى» باعتباره نقطة ضعف وتعبيراً عن انفضاض الجماهير العربية عن الاهتمام بالقضية الفلسطينية كقضية مركزية، لذلك من الضروري تسليط الضوء على عدّة نقاط للمساهمة في هذا النقاش:
أولاً – حقيقة الموقف الشعبي العربي الإسلامي
منذ بداية «الطوفان»، أجرت عدة مراكز أبحاث استطلاعات رأي لسبر غور ما يقف عليه المواطن العربي تجاه القضية الفلسطينية، وتجاه «حماس»، وتحديداً «طوفان الأقصى»، وتجاه الموقف من الاحتلال الصهيوني وسياسة التطبيع، والموقف من السياسة الأميركية. أهمّها «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، الذي ركّز على استطلاع موقف الشعب في المملكة العربية السعودية والأردن، حيث كانت النتائج حاسمة تؤشّر إلى ارتفاع التأييد لـ«حماس» وضرورة قطع العلاقات مع إسرائيل. كذلك استطلاع أجراه «المركز العربي – واشنطن دي سي»؛ وصف ما يقرب من 100% من العرب السياسة الأميركية تجاه إسرائيل وغزة بالسيئة. كما كان لافتاً ارتفاع نسب رفض التطبيع إلى مستويات قياسية، في دول مهمّة كالسعودية (التي تراهن إدارة بايدن على جرّها إلى هذا المستنقع)، أو في دول سبق لها التطبيع كالمغرب والسودان. وفي المغرب وتركيا أيضاً، جرى استطلاعان أكّدا تأييد أكثر من 80% من الشعبين للمقاومة.
وتجري بشكل دائم تحركات في معظم بلدان المنطقة تعبيراً عن تأييد الشعب الفلسطيني، كما عبّرت شعوب المنطقة عن رأيها من خلال نشاطَين بارزَين، هما: حركة المقاطعة لبضائع الشركات الداعمة للكيان والتي نجم عنها خسائر قدّرت بالمليارات لهذه الشركات، والمشاركة الفاعلة للشباب العربي في المهجر، الأمر الذي ساهم بشكل فاعل في إحداث انقلاب في الرأي العام الغربي. إذاً، ما هي المشكلة، ولماذا لا تتحرّك الجماهير العربية وتنزل إلى الشارع؟
ثانياً – مفهوم الشارع العربي الإسلامي
كان الشارع العربي تعبيراً عن جبهة وطنية عريضة من القوى السياسية والكتل الاجتماعية والتجمّعات شبه المنظّمة للعشائر والعائلات والتجمّعات الريفية الجهوية المهاجرة إلى المدن وفتوة المدن (القبضايات) والتجمّعات النقابية والحرفية، وكان في صلب هذه التحرّكات تقع الحركة الطالبية في الجامعات والثانويات، وكانت هذه الجبهة العريضة تخضع لتأثير ثلاثة تيارات رئيسية تعتمل في الحركة الشعبية، هي: التيار القومي بجناحَيه الناصري، ثم البعثي، والتيار اليساري الذي تعبّر عنه الأحزاب الشيوعية المرتبطة تاريخياً بتوجّهات الاتحاد السوفياتي وخطوط حمر للحرب الباردة، وثالثاً التيار الإسلامي الذي مثّلته حركة «الإخوان المسلمين» وعلماء الأزهر الشريف وحركة المرجعية الدينية في النجف وقم، وضمناً حزب «الدعوة» (ولم تكن خريطة التقسيم هذه مختلفة كثيراً في تركيا أو في إيران). كانت هذه التيارات الثلاثة تتقاطع وتتعارض منتِجةً في كل مرّة لحظة من لحظاتها المجيدة أو صدامها المرير.
ثالثاً – بين التغيير والتحرير
نستطيع متابعة اتجاهَين متداخلَين، لكنّهما شديدا التعارض عرفتهما الحركة الشعبية الوطنية في بلادنا:
اتجاه يعلي من شأن الصراع على السلطة في الداخل ويطرح شعارات الخبز والديموقراطية والحرّيات العامة ومحاربة الفساد، وقد ترك ذلك نتائج مأسوية على الحركة الشعبية وحروباً أهلية حامية وباردة وصراعات لا أفق منظوراً لحلّها بين الكتل الاجتماعية والقبائل والطوائف والمذاهب والمؤسسات المدنية والعسكرية، أفسحت المجال أمام تدخلات أجنبية معادية على كل المستويات السياسية والعسكرية والثقافية، عرف أوجها في مرحلة الربيع العربي الذي لمّا يزل يجرجر أذيال نتائجه المخيّبة والمحبطة للقوى التي خاضته والدول التي تعرضت لثوراته المضلّلة، كما ترك آثاره على موازين القوى في الصراع العام مع الاحتلال ونظام الهيمنة المعادي.
أمّا الاتجاه الآخر، فهو الذي كان يجعل من قضية الصراع مع الاحتلال والهيمنة الغربية نقطة تركيزه الأساسية، مجنّداً كلّ طاقاته لذلك، داعياً الجماهير إلى تحمّل نتائج الصراع من لحم ودم وشظف عيش مقابل العزة والكرامة والحرّية والاستقلال. واعتقد أصحاب هذا التوجّه بضرورة بناء القوّة وحشد الجهود ومعالجة التناقضات الداخلية بالتي هي أحسن. ودفع من رصيده ثمن تسويات داخلية تبدو غير لائقة، معتبراً أن لا طريق إلى العدالة الاجتماعية وبناء مجتمع شفّاف وغير فاسد وتسوده الحرّيات، طالما أن لا أمن قومياً يردع القوى المعادية ويمنعها من التدخّل في الشأن الداخلي ويعمل على تحرير الأرض من الاحتلال، وكذلك يحرّر طاقات الأمّة ويطلق قدراتها على النمو والنهوض واستخدام طاقاتها البشرية والمادّية بشكل مناسب، ويفكّك ألغاماً موقوتة زرعها العدوّ في جسد الأمّة قابلة للانفجار في اللحظة المناسبة.
إنّ المطلوب في هذه المرحلة مشروع يطمئن الجماهير في نسيجها الأهلي ويضعها على سكّة حركة الأمّة
إنّ نظرة مدقّقة في طبيعة القوى السياسية على امتداد الساحة وعلى مختلف اتجاهاتها العقائدية والفكرية وبرامجها السياسية، تجعلنا ندرك، بلا لبس، أنّ الحركة السياسية في مختلف بلدان المنطقة، بمعظم مثقفيها ونخبها، ما زالت قابعة في كمين الربيع العربي؛ فهذه هي حال الإسلاميين خارج محور المقاومة، وهذه هي حال اليسار الذي كاد يفقد معنى اليسار. أمّا اللافت، فهو أنّ القوى الوطنية والقومية باتت غريبة عن مشروعها التاريخي التحرّري، وصارت برامجها عديمة الراهنية وملحقة ذات اليمين وذات اليسار، والاطّلاع على برامجها السياسية خير دليل على ذلك.
إنّ ما هو ملاحظ أنّ القوى السياسية المختلفة التي تحاول الادّعاء بكونها تدعم نضال الشعب الفلسطيني، تقوم بهذا النشاط وعينها على الحكم، وهي إنما تدعم فلسطين لإحراج النظام وإبراز ضعفه، وهذا ما فهمته الجماهير وهي تعرب في تلكؤها عن النزول إلى الشارع عن عدم موافقتها على تكرار المأساة المسمّاة الربيع العربي. فعندما لا نقدّم للجماهير مشروعاً وحدوياً على مستوى الداخل يدعو إلى تصليب الجبهة الداخلية، وبالعكس يعمل على استسهال الصراعات الأهلية ويتسامح أمام الشروخ التي تدخل كل الشياطين إلى الميادين (بدءاً من هنري ليفي وشركاه)، فمن غير المتوقّع للجماهير أن تلبّي نداء النزول إلى الشارع. إنّ المطلوب في هذه المرحلة مشروع يطمئن الجماهير في نسيجها الأهلي ويضعها على سكّة حركة الأمّة، وما عدا ذلك فهي ليست مختبراً للسياسات الخاطئة والتجارب الفاشلة.
خاتمة
إنّ الظروف الراهنة هي ظروف مناسبة ترى فيها جماهيرنا حجم الضعف الذي تعانيه منظومة النهب الدولية على المستوى العالمي وذراعها الضاربة في منطقتنا، وترى شعوب العالم وهي تنفض إرث الهيمنة عن كاهلها. لذلك، فإنّ الحراك الشعبي العربي والإسلامي توّاق إلى برامج سليمة تحدّد العدوّ في هذه اللحظة الراهنة من تاريخ بلادنا، وإلى برامج سياسية مناسبة يتمّ اجتراحها وتبنّيها وخوض غمارها والتجرّؤ على تنفيذها، وإلى توسيع إطار التحالفات لتشمل كلّ مَن له مصلحة في دحر الإجرام الصهيوني والقوى الداعمة له التي تطلق نارها على صدور أهلنا في أفظع مجزرة عرفها التاريخ الحديث على مرأى من العالم كلّه ومسمعه.