عصر الجنون الغربي
بدر الإبراهيم – وما يسطرون|
بالنظر إلى طبيعة الإجرام الإسرائيلي بعد عملية «طوفان الأقصى»، يمكن القول إنه غير مسبوق لناحية حجمه ومداه، وأحد أهمّ أسباب هذا التوحّش الصهيوني غير المسبوق هو خلع الغرب الاستعماري قفّازاته، واندفاعه نحو استخدام العنف بصورة أشدّ من كلّ عنف سابق بغية الحفاظ على مكانته، مدفوعاً بمأزق تعيشه النخبة الاستعمارية الغربية داخل دولها، وتأثيرات هذا المأزق على الهيمنة الغربية، في لحظة دولية تبدو فيها الأحادية القطبية في الطريق إلى نهاية، وسط صعود قوى تتحدّى الهيمنة الغربية في محيطها، مِثل الصين وروسيا، ما يجعل حالة الاستنفار الغربي قائمة بشكل يؤسّس لأزمات أكثر على مستوى العالم في المدة المقبلة.وصل المشهد السياسي الغربي إلى حالة متقدّمة من التردّي والتأزّم، فالأحزاب السياسية التقليدية تتآكل شعبيتها، ويبحث الناخبون عن أحزاب وشخصيات جديدة لعلّها تقدّم حلولاً لمشكلاتهم. في نتائج الانتخابات البريطانية الأخيرة، ركّز المراقبون على فوز حزب العمّال الكاسح بثلثي مقاعد مجلس العموم، لكن قليلاً ما تمّ ذكر أنّ هذا الفوز حصل بثلث الأصوات. حصل الحزبان المهيمنان على الحياة السياسية في بريطانيا (العمّال والمحافظون) مجتمعين على 57% فقط من الأصوات، وهي أدنى حصّة لهما منذ قرن. فضَّل بقية الناخبين انتخاب أحزاب صغيرة بعضها ينتمي إلى اليمين الشعبوي، وآخرون إلى أنصار البيئة.
فاز حزب نايجل فاراج، أحد أهم دعاة الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، بحوالى 14% من الأصوات. صعود هذا الحزب المناهض للمهاجرين يأخذ من حصّة حزب المحافظين، وهو دلالة على تآكل اليمين التقليدي في الغرب، رغم محاولات هذا اليمين تبنّي سياسات متشدّدة تجاه المهاجرين وطالبي اللجوء لقطع الطريق على صعود اليمين الشعبوي. في الولايات المتحدة، بات اليمين التقليدي في الحزب الجمهوري رهينة أجندة دونالد ترامب ومناصريه. لَم يسقط الحزب، لكنه تغيّر بشكل كبير مع استحواذ ترامب عليه، كما أنّ الحزب الديموقراطي لا يخلو من انقسام بين المؤسّسة التقليدية للحزب ومناهضيها. تظهر استطلاعات الرأي أنّ المرشّحين الحاليين للرئاسة، جو بايدن ودونالد ترمب، يحوزان أقلّ شعبية لمرشحين للرئاسة، على الأقلّ في العقود الثلاثة الأخيرة.
يضاف إلى تقلّص شعبية الأحزاب التقليدية، التشظّي والانقسامات الهوياتية والسياسية في المجتمعات الغربية، المنتجة لبرلمانات وحكومات تعاني من التعطيل المتبادل. في الانتخابات الفرنسية، أخذ فوز اليسار حيّزاً كبيراً من النقاش، لكن البرلمان المنقسم يجعل تشكيل حكومة فاعلة أمراً صعباً، وحكومة غير فاعلة تقيمها أطراف مختلفة كي لا يصل حزب «التجمّع الوطني» اليميني إلى السلطة، قد يمهّد فشلها لفوز زعيمة الحزب مارين لوبان في الانتخابات الرئاسية بعد ثلاث سنوات. في ألمانيا، تبرز تجربة حكومة ائتلافية من الديموقراطيين الاشتراكيين والديموقراطيين الأحرار وحزب الخضر، تتناقض مكوناتها بفعل اختلاف أولويات كل طرف، ويصبح أمرٌ مِثل إقرار الميزانية بالغ التعقيد، والنتيجة تدنّي مستوى قبولها شعبياً.
هذه المعطيات تشير إلى حجم الضرر الذي لحق بشرعية النظام الديموقراطي الليبرالي واستقراره وفاعليته، وقد تراكمت أسبابٌ لتنتج هذا الضرر، من أهمّها السياسات الاقتصادية النيوليبرالية المعولمة. في هذه الحالة، تضطر النخبة المهيمنة التي تشعر باهتزاز الأرض تحت أقدامها إلى تقليص الاعتماد على القوّة الناعمة للنظام، واللجوء إلى البطش، خاصّة حين تشعر هذه النخب بفقدان الهيمنة على السردية، كما هو الحال اليوم في موضوع حرب غزة. لجوء ألمانيا إلى اشتراط الاعتراف بالكيان الصهيوني للحصول على الجنسية، وقرار مجلس النواب الأميركي باعتبار معاداة الصهونية معاداة للسامية، كلّها تشير إلى حجم الأزمة التي تعيشها النخب الغربية المهيمنة.
هذه النخب تلحظ أيضاً صعود الصين وروسيا، وتجرؤهما وآخرين على تحدّي الهيمنة الغربية، وتشعر أنّ الوقت ينفد في ظل محاولتها كبح صعود الصين، ووضع حد لتراجع القوّة الغربية. شعور نخبة الغرب الاستعماري بتضافر عوامل داخلية وخارجية تغذّي بعضها وتقود إلى تراجع هيمنته، يجعلها أكثر توحّشاً وشراسة في محاولة عكس مسار التراجع، وهو ما يعني أننا غالباً سنشهد إجراءات قمعية غير مسبوقة داخل دول الغرب، ونهجاً حربياً شرساً حول العالم، وسعاراً متواصلاً لا يمكن القياس على ما سبقه تاريخياً.
سلوك الكيان الصهيوني أحد تعبيرات السعار الغربي، لأنه جزء من الغرب الاستعماري، وكلما زادت إشكالاته الداخلية وتناقضاته، وتراجعت قوّته، كلّما زاد توحّشه وعنفه وإجرامه. قلق الكيان على وجوده يتضاعف بعد «طوفان الأقصى»، ما يجعل سلوكه أبعد عن العقلانية، وهذا أمر لا بدّ أن يوضع في الحسبان.