شرعية المقاومة
صفية أنطون سعادة – وما يسطرون|
تقوم الولايات المتحدة الأميركية بحملة على كلّ حركة تحرّرية ضمن دول تعتبرها جزءاً من ممتلكاتها الاستعمارية، وعلى رأسها المشرق العربي الذي طوّبه الغرب الفرنسي-البريطاني منطقة «تابعة» له مع نهاية الحرب العالمية الأولى، فقسّمه لإضعافه والتنكيل به، واستخراج موارده الأولية من نفط وغاز دون أن يتمكّن أهل الأرض من الدفاع عنه. وإمعاناً في السيطرة، أنشأ البريطانيون معسكراً صهيونياً غايته الضرب بيد من حديد كلّ مَن تسوّل له نفسه أن يحاول استعادة استقلاله وهويته الأصلية.استطاع هذا الغرب الاستعماري، لمدّة تزيد عن القرن، استمالة قسم لا يستهان به من حكّام دول سايكس-بيكو المصطنعة كي يقبلوا بهذه التقسيمات، واعتبارها مقدسة. وأصبح كلّ مَن يحاول تجاوزها والعودة إلى الوضع الجغرافي الطبيعي الذي كان قائماً قَبْل 1920 مارقاً، وكاسراً للشرعية الدولية (أي شرعية المستعمر). استكان أهل المنطقة، ابتلعوا السمّ واعتبروه ترياقاً يحدّد هويتهم ووجودهم، وسها عن بالهم أنّ هذا الوضع لا يثبّت وجودهم بل وجودَ المستعمِر على أرضهم، وبالتالي هو الذي يحدّد حدودهم ومسارهم وأهدافهم وأحلامهم ومستقبلهم، وبكلمات أخرى: شرعيتهم القانونية. وأمست دول «سوراقيا» تستمدّ شرعيتها من قرارات الأجنبي المستعمِر، لا من إرادة شعوبها.
المؤلم في هذا الوضع، أنّ الطبقة الحاكمة اعتبرت نفسها أنها هي الممسكة بزمام السلطة، وقسم كبير من سكّانها صدّق ذلك وتصرّف على هذا الأساس، فأنشأ أحزاباً تتكلّم باسم هذه المستعمرات/الدول، موهماً الجميع بأنها تتكلّم باسم شعوبها، فيما هي في الحقيقة ليست إلّا ألعوبة في يد مستعمِرها القابع في الظلّ والذي لا يظهر إلّا في أوقات المحن والأزمات. ففي هذا المشرق العربي الذي مزّقته التقسيمات الغربية، كم رئيس جمهورية تبوّأ السلطة بناء على إرادة الشعب لا بناء على مشيئة غربية لها الكلمة الفصل؟ أضحى المستعمِر يتدخّل جهاراً وبلا تورية في تعيين الحكّام ومن في يده الأمر، وفي السيطرة على الجيش، وفي إثارة الاضطرابات والانقلابات إذا تجرّأ أحدهم على مواجهته، ومَن يثور على هذا الاستعباد يوصم بالخائن والخارج عن الشرعية الوطنية، أي شرعية المستعمِر الذي قسّم البلاد على هواه وبما يناسب مصلحته.
حين نتكلّم عن شرعية الحكم في الغالبية المطلقة من البلدان العربية، نحن نتكلّم حقيقة عن شرعية الغربي في حكمنا عبْر اختياره مَن يراه خاضعاً له كي يتسلّم السلطة، ولا تمانع الدولة المستعمرة وجود بعض الأحزاب المناوئة أو المعترضة، إذ إنّ هذه الأخيرة تضفي شعوراً كاذباً بالاستقلالية والحرّية، وبأننا نعيش في بلدان «ديموقراطية».
لا شرعية دول سايكس-بيكو
الميزة الأهمّ لاعتبار دولة ما أنها دولة حديثة، هو كيفية تمثيل السلطة، لأنه، ولأوّل مرّة في تاريخ المجتمعات، تُعطى الشرعية للشعب فيضحي هو مصدر السلطات، وتعمل مؤسّسات الدولة لمصلحة الشعب بكلّ أطيافه لا لفئة خاصّة منه. فهل ينطبق هذا الوصف على الدول التي أنشأتها اتفاقية سايكس-بيكو؟
إنّ تقسيم بلاد الشام والعراق من قِبَل الفرنسيين والبريطانيين مع نهاية الحرب العالمية الأولى، يعني أنّ ذلك حصل رغماً عن إرادة الشعب، وبالتالي شرعية هذه الدول نابعة من قرارات المستعمِر والمحتلّ لا من إرادة سكّان المنطقة الذين طالبوا وشدّدوا على بقائهم وحدة متكاملة وعدم تقسيمهم كما بيّنت لجنة كينغ-كراين الأميركية. فلقد تمّ توثيق ذلك مباشرة بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918 حين قرّر الرئيس الأميركي ويلسون، إرسال لجنة مهمّتها استفتاء سكّان بلاد الشام حول مصيرهم بعد انعتاقهم من الحكم العثماني. أصدرت لجنة كينغ-كراين تقريراً بيّنت فيه أنّ نتيجة الاستفتاء هي رفض غالبية سكّان بلاد الشام التقسيم، كما طالبت باستقلالها واعترضت على الانتدابين الفرنسي والبريطاني، ونبّهت اللجنة من أنّ توطين الصهاينة الغربيين في فلسطين سيتسبّب في حروب وأزمات لا نهاية لها. وبالتالي، الدول التي أنشأها الفرنسي والبريطاني في المشرق العربي هي دول لا شرعية كونها فُرضت على الشعب بالقوّة من قِبَل محتلّ أجنبي. علاوة على ذلك، سمح الانتداب البريطاني للميليشيات الصهيونية بتهجير الفلسطينيين والاستحواذ على أرضهم وبيوتهم.
لم يكتفِ المستعمِر بتقطيع أوصالنا، بل لجأ إلى تفتيت كلّ دولة من الدول التي اخترعها بناء على النموذج الطائفي الذي أدّى إلى حروب طاحنة في الغرب انتهت بإخراج الدين من السياسة واعتماد المبدأ القومي؛ أي إنّ الغرب فرض علينا نظام الطوائف الدينية المتضاربة لأنه يعرف مسبقاً أنها ستشرذم المجتمع وتقوده إلى حروب مدمّرة، فترتاح الدول المستعمِرة من مهمّة بعث جنودها للسيطرة. كما أنها تعلم علم اليقين أنّ هذه الحروب ستقيم جبالاً من الكراهية والحقد بيْن أبناء الشعب الواحد، فينتفي أي أمل في توحيد البلاد أو إقامة دولة وطنية قوية تستطيع مجابهة الغرب.
اللافت في النظام الطائفي أنه يقيم حاجزاً منيعاً أمام توحيد المجتمع لأنه يقوم على التقسيم العمودي لا الأفقي، وأي حراك باسم الوطنية والوحدة يترجَم على أنه ثورة «لا شرعية» على النظام الذي وضعه الغربي، ودعّمه بـ«شرعيته»!
لقد وعى بعض المفكرين في المشرق العربي هذا الوضع فكتبوا ونظّروا وأنشأوا أحزاباً تدعو إلى الوحدة، ولكن الغرب كان أقوى. شكّلت المقاومة التي نشأت بعد حرب إسرائيل على لبنان عام 1982 الاستثناء الوحيد، فخرقت هذه الظاهرة وانتصر أبناء الأرض لأرضهم وهويتهم واستطاعوا استرجاعها. ومثّلت هذه الحركة نقطة البداية لنهاية الاستعمار الغربي ومعسكره الصهيوني بعد تراكم المحاولات والخيبات التي سبقت نشوء المقاومة.
حين احتلّت ألمانيا فرنسا إبّان الحرب العالمية الثانية، وأقامت نظاماً موالياً لها (حكومة فيشي)، تصدّت المقاومة الفرنسية لهذا الاحتلال ودحرته. فهل اعتبرت فرنسا في كتابتها لتاريخها أنّ حكومة فيشي هي الممثّلة للشعب الفرنسي، أم المقاومة التي استعادت أرض فرنسا وحرّيتها؟
الأمر نفسه ينطبق علينا. فالشرعية للمقاومة التي عملت على وحدة الجبهات وألغت مفاعيل سايكس-بيكو التي منعتنا من التكاتف والعمل معاً كي نظلّ ضعفاء مهزومين. والشرعية للمقاومة لا للحكّام الذين نصّبهم المستعمِر، والذين يستمدّون شرعيتهم منه. والشرعية للمقاومة التي تمثّل إرادة الشعب الحقيقية لا إرادة المستعمِر.