عصر الطوفان: فلسطين كهويتنا السياسية
موسى السادة – وما يسطرون|
تُعَدّ الهويات أحد أكثر المفاهيم الاجتماعية تعقيداً وغرابة، وهو ما يجعلها منطلق انفجار للمجتمعات بشكل مخيف في حجم الدمار الذي ينتجه، أسوأ حتماً من أسلحة الدمار الشامل. هي من التعقيد، أنه، وفي ظلّ الأزمات، تتعصّب الفئات لأكثر الهويات قابلية للاشتعال في مقابل نقيضتها. ومن جهة أخرى، يشهد توصيف هذه الأزمات اختزالاً كبيراً مجحفاً عبر تصويرها كصدام تكتّلات كبرى بين المذاهب الدينية أو الأديان أو حتّى العناوين الأيديولوجية، رغم أنّ واقع الانقسام هو حالة مركّبة، لكلٍّ طبيعتها الخاصّة، ما له علاقة بالظروف الوطنية والقبلية والعشائرية والمناطقية والاقتصادية، في كل بلد ومنطقة في الوطن العربي.
المفارقة هنا، والأكثر غرابة، أنه وفي التاريخ العربي الحديث، ورغم هذا الانقسام المركّب، تتموضع فلسطين على مسافة واحدة من الجميع، بل وتربطها علاقة بكلّ التقسيمات، ولها وجود في كلّ الأدبيات التنظيمية على اختلافاتها. يعود ذلك إلى أنّ فلسطين مكوّنٌ أساسيٌّ من الهوية السياسية العربية الحديثة. كلّ فئة عربية نسجتْ علاقة مع فلسطين، يسارياً وإسلامياً وقومياً ووطنياً، وحتى مذهبياً، كلّ عبر أدواته الثقافية. إلا أنّ كلّ ذلك لَم يفضِ إلى توحّد أو رأب صدع فاعل عربي أو إسلامي.
وهنا يتصدّر السؤال: «لماذا؟». ثمّة أجوبة كثيرة، ويعود ذلك إلى أن هنالك أسباباً متعدّدة، من أبرزها أنّ قوّة القضيّة الفلسطينية في الوجدان جعلتها أداة ناجعة لاستغلالها كرمزية خاوية. وعليه، تجدها في أدبيات أطراف تتصدّرها تاريخياً الأنظمة العربية، وجماعات وتيارات سياسية تشمل إسلاميين ويساريين وليبراليين، تردّد فلسطين وهي تتلقّى الدعم المادي والأيديولوجي والإعلامي من أعدائها المباشرين. لنترك هؤلاء جانباً، فهم شكل من أشكال الحرب لتصفية القضية الفلسطينية بما يشكّل امتداداً للحرب على المجتمعات العربية.
لكن السؤال الرئيسي هو: لماذا لم تنتِج مكانةُ فلسطين في الكلّ العربي والإسلامي وحدةً بين مَن ترتبط بها، حقيقةً وبأمانة، قلوبُهم ودماؤهم؟ وتحديداً وحدة بين الحركيين الإسلاميين. وأيضاً هنا، الأسباب والأجوبة كثيرة. ولكن، ولأننا في «عصر الطوفان» وفي قلب المعركة، فالمقاربة تستدعي الخوض في الإجابة الفاعلة والطارئة حالاً وفوراً.
تنطلق المسألة في عصر الطوفان عبر التحوّل والانتقال من وجود علاقة مع فلسطين، سواء أكانت مادية وعسكرية أم مجرد عاطفية ورمزية، إلى تفعيل هذه العلاقة بأقصى الدرجات وعلى كلّ الأصعدة، وبطبيعة الحال تبدأ المسألة في وحدة المعركة على الأرض وتقديم المفعّل الرئيسي لحركة التاريخ، وهي الدماء والشهادة. لكن المسألة الأخرى المحورية، هي إعادة تفعيل مركزية العلاقة بفلسطين من ناحية الهوية والخطاب.
اليوم، أكثر من أي وقت مضى، تجب الإعادة الفاعلة لفلسطين كما يعبّر الدكتور الشهيد فتحي الشقاقي: إلى أن تكون «مجال الفكر والممارسة السياسية». ولذلك، علينا الانتقال من كوننا جماعات ذات انتماءات مختلفة وفلسطين عنصرٌ من أدبياتها، إلى تصدير فلسطين لتكون العنصر الرئيسي للخطاب، ولتكون للقدس مركزيةُ السردية والخطاب في الأدبيات والحشد الجماهيري واستقاء الشرعية السياسية، بينما تكون العناصر الثقافية التي نتباين فيها عناصر ثانوية. بعبارة أخرى: تصدير فلسطين كهوية سياسية شاملة لنا جميعاً على اختلاف الانتماء الأيديولوجي والمذهبي.
هذا التفعيل يهدف إلى تحويل العلاقة مع فلسطين كعنوان لهوية الأمة العربية والإسلامية ككل، وهذا ليس بالأمر جديد، بل هي استعادة لعنفوان سابق تراكم وتنوّع منذ الخمسينيات بشكله العروبي والقومي، ومنذ الثمانينات بشكله وعنفوانه الإسلاميَيْن، في استمرارية تاريخية عربية لم تنقطع. لكن عصر الطوفان يستدعي تفعيله، وتبنيه، وعليه تصدير فلسطين والرموز الثقافية المشتركة وتهذيب التمايز عبر الحرص على جعل كل هوياتنا الثانوية نحيلةً أمام الهوية التاريخية والحضارية الكبرى التي تؤسّس لها الرموز الرئيسية من فلسطين نفسها والقدس والأدبيات القرآنية والشعرية والتكبير والإرث المقاوم للاستعمار العربي والإسلامي والعالمي، وقبله مزج إرث جميع رموز ساحاتنا وشهدائها.
تكمن أهمّية هذه العملية في أنّ ما نمرّ به، أو ما نريد لـ«الطوفان» أن يكونه، هي مرحلة تحوّل كبرى في مجتمع واسع النطاق ثقافياً وجغرافياً. يجادل المفكر المصري أنور عبد الملك أنه من الإشكالي اعتبار عملية توحيد القوى السياسية الوطنية كمعضلة. لأنه، وفي حالة التحوّلات الكبرى في المجتمعات الممتدة كالوطن العربي، لا سبيل سوى حشد أوسع إجماع شعبي. يرسم عبد الملك علاقة بين الهوية الوطنية والعمليات الثورية (كالسابع من أكتوبر المجيد)، إذ إنه، وعبر عملية تكثيف خطاب وطني متأصّل بالسياقات التاريخية وخصوصيتها، سوف تترسّخ ثقة ورابطة شعبية أكبر بين الهوية والمقاومة لدى الجميع على مختلف الخلفيات.
أتى «الطوفان» بعد عقدين بالتمام والكمال من سقوط بغداد؛ عشرون عاماً من مسارٍ ضخم ومدمّر تفجّرت فيه المجتمعات العربية والأواصر الإسلامية. كلّ ذلك ضِمن مشروع أميركي وصهيوني لإعادة تشكيل، أو حتى مجرّد التدمير الفوضوي، للبنية السياسية والاجتماعية والهوياتية لـ«الشرق الأوسط». نحن اليوم أمام فرصة وأمانة تاريخية: عدم التفريط وإعادة الإمساك بزمام المبادرة في بناء وتقرير مصيرنا الجمعي والتعفّف عن الذات. على نحوٍ تاريخي، ليست دماء الإبادة لعشرات الآلاف من الشهداء الفلسطينيين اليوم سوى ضريبة لمآسي العقود الماضية، ومن أجلهم علينا ألّا نسمح لكلّ ذلك أن يتكرّر.