«وحدة الساحات» مِن منظورٍ إمبريالي
وليد شرارة – وما يسطرون|
لا تزال الولايات المتحدة تعتقد أنها في موقعٍ يسمح لها بفرض تصوّراتها، والأصحّ تهويماتها، لِما سيكون عليه «اليوم التالي» للحرب الصهيونية-الأميركية-الغربية على غزة. آخر ما تفتّقت عنه عبقريّة الوكالات المختلفة التابعة للإدارة، وخبرائها الأفذاذ، وفقاً لموقع «بوليتيكو» الذي نَسبَ المعلومات إلى مسؤولٍ في الخارجية الأميركية، هي خطّةٌ لإخضاع قطاع غزة لوصاية قواتٍ دولية لضمان «تحقيق الاستقرار» والإشراف على «عملية إعادة إعمارٍ متعدّدة المراحل تفضي في نهاية المطاف إلى سيطرة السلطة الفلسطينية عليه مجدّداً».
لا تتضمّن هذه الخطّة، في الواقع، أيّ أفكار مختلفة عن تلك التي جرى تسريبُها منذ اندلاع المواجهة في السابع من تشرين الأوّل الماضي، مِن قبل واشنطن وحلفائها، حول كيفيّة إدارة شؤون القطاع في حال نجاح المحور الصهيوني-الأميركي-الغربي في القضاء على حركة «حماس» وبقيّة فصائل المقاومة، أو إضعافها إلى الحدّ الأقصى، إنما ترتكزُ أساساً على فرض وصايةٍ «دوليّة»، أي أميركية غربية، عليه.
لا بدّ مِن الإشارة أيضاً إلى تقريرٍ «مهمٍّ» آخر، يتبنّى المقاربة نفسها، صَدَرَ في بداية شهر أيار الماضي بعنوان «خطّة لغزة ما بعد الحرب»، وشارك في إعداده الجنرال كايث دايتون، الرجل الذي أعاد بناء أجهزة السلطة الفلسطينية الأمنيّة، بعد استشهاد الرئيس ياسر عرفات، وحوّلها إلى أداةٍ طيّعة للتنسيق الأمني مع قوات الاحتلال الصهيوني.
وعلى الرغم من أنّ آخر تجارب الولايات المتحدة في مجال الوصاية الدولية في أفغانستان مُنيَت بفشلٍ ذريع، ما حدا بخبير الشؤون الأفغانية، الفرنسي جيل دورنسورو، إلى اختيار العنوان التالي لكتابه المخصّص لها، والصادر في عام 2021: «الحكم الدولي لأفغانستان. قصّة هزيمة متوقّعة»، فإنّ أصحاب الخطط المشار إليها لا يتورّعون عن استلهام خطوطها العامّة ومفردات الخطاب التبريري لها.
ليس نقص الخيال وحده ما يدفع واشنطن لاستلهام تجارب فاشلة. الحقيقة هي أنها تعتبر أنها تخوض حرباً واحدة في ساحاتٍ متعدّدة، بدءاً مِن أوكرانيا، مروراً بغزّة ومضيق باب المندب، وصولاً إلى تايوان وبحر الصين الجنوبي. لا وقتَ في مثل هذه الظروف، ولا إرادةَ سياسية لإدارةٍ أميركيةٍ جُلّها من الصهاينة العقائديين، للبحث عن حلولٍ سياسية لـ«صراعاتٍ مستعصية» كالصراع في فلسطين بين مشروع التطهير العرقي الصهيوني والشعب الفلسطيني. المطلوب هو استعادة القدرة على الإدارة الأمنية والعسكرية للقطاع للإجهاز على المقاومة والسيطرة والتحكّم بالسكّان.
المنطق العميق للخطط الأميركية يتطابق، في الحقيقة، مع ذلك الذي حكمَ الاستراتيجية الإسرائيلية منذ إقامة الكيان الصهيوني. حول هذه الاستراتيجية، أفردَ أحدُ أبرز «المؤرّخين الجدد» الإسرائيليين، توم سيغيف، مقالاً في عدد أيار/حزيران من مجلّة «فورين أفيرز» الأميركية بعنوان «حرب إسرائيل الأبدية – التاريخ الطويل لإدارة الصراع بدلاً مِن حلّه»، يقرّ فيه بأنّ سياسة جميع الحكومات الصهيونية المتعاقبة، «مِن بن غوريون إلى نتنياهو»، لم تعترف يوماً بوجودهم كشعب، وبحقّهم في تقرير المصير ولو على جزءٍ بسيط من فلسطين، وسعت دوماً، عبر آلياتٍ وتقنيات أمنيّة وعسكرية متغيّرة وفقاً للظروف، للتحكّم بهم، والمضيّ بالاستيطان والضمّ والتطهير العرقي. وما التلويح الأميركي الراهن بمسارٍ تفاوضي يفضي إلى قيام «دولتين» سوى تكرارٍ مكشوف لسياسة الخداع الأميركية المتّبعة منذ عقود.
الولايات المتحدة وغربها الجماعي في «حالة حرب» على النطاق الدولي. تنضحُ تصريحاتُ المسؤولين الأميركيين والغربيين بقناعتهم هذه، وكذلك رزمُ المساعدات العسكرية المرسَلة لإسرائيل وأوكرانيا وتايوان، وكذلك عناوين كتب أعضاء «المجمع الفكري-العسكري» حسب التسمية الصائبة التي اختارها الخبير الفرنسي بيير كونيسا للإشارة إلى الباحثين والمفكّرين الذين يتولّون التسويق والدعاية لخيارات الحرب في أوساط الرأي العام الغربي. نظرةٌ سريعة إلى عناوين الكتب الأخيرة لبعض هؤلاء تكفي للدلالة على هذا الأمر.
دايفيد سانغر، كبير مراسلي «نيويورك تايمز» في البيت الأبيض لعقود، عنونَ كتابَه «حروب باردة جديدة»، والخبير الاستراتيجي الأميركي جيم شويتو اختار «عودة القوى العظمى». أمّا الفرنسي جيل كيبيل، «عالِمُ الإسلاميّات» والمستشارُ الظرفيّ لماكرون، فقد ارتكب «هولوكوست: إسرائيل وحماس والحرب ضد الغرب». وجان فرنسوا كولوسيمو، الفرنسي هو الآخر، فضّل «الغرب: العدوّ العالمي الأوّل».
هذا غيضٌ مِن فيض حملة الشحن والتعبئة التي يشنّها أعضاء المجمع المذكور سابقاً، الجهاز الأيديولوجي للحكومات الغربية الحالية، لمحاولة صناعة إجماعٍ داخلي في مجتمعاتها داعمٍ لتوجّهاتها العدوانية الحالية.
تستسلمُ النخبُ الغربية الحاكمة لِما سمّاه المفكر اللبناني غسان سلامة «إغواء مارس» (عنوان كتابه الأخير)، وهو إله الحرب الروماني، ظنّاً منها أنّ خيار الحرب الذي تعتمده كفيلٌ بوقف انحدار هيمنتها وصدّ طموحات القوى الصاعدة غيْر الغربية، وإعادة ترميم نظامها الدولي الذي دخل طوراً متقدّماً مِن التفكّك والتحلّل.
الفوضى العالمية إلى اتّساع، ومعها النزاعات والتدافع والتطاحن، وستقرّر موازينُ القوى في الميدان طبيعةَ الحلول التي سيتمّ التوصّل إليها. الأكيد هو أنّ الغرب الجماعي ينظر إلى حروبه في ساحاتٍ متعدّدة على أنها حربٌ واحدة مصيرية بالنسبة إليه، وسيكون مِن الضروري لخصومه وأعدائه المتعدّدين تعزيزُ تعاونهم وتلاحمهم في مواجهته.