ألمانيا الاستعمارية والإبادة الجماعية
هشام صفي الدين – وما يسطرون|
بعد عملية «طوفان الأقصى»، وقفت ألمانيا بشكل سافر الى جانب إسرائيل. تطوّعت الحكومة الألمانية للدفاع عن تل أبيب في محكمة العدل الدولية وقامت بقمع التظاهرات المؤيّدة لفلسطين في أراضيها وملاحقة، أو مضايقة، المتضامنين معها، وتجريم مقارنة الصهيونية بالنازية. والتزمت مؤسساتها التنموية، كـ«جي أي زي»، والبحثية، كالمعهد الألماني للأبحاث الشرقية في بيروت، والمُموّل من حكومة برلين، الخطوطَ العريضة لهذا الموقف المُخزي. ولم تحِد المنظّمات المحسوبة على اليسار الألماني، مثل «روزا لوكسمبورغ» و«هاينريش بول» (وهذه المؤسسات بالمناسبة تابعة لأحزاب) كثيراً عن السقوف الموضوعة في ما يخص الموقف من فلسطين. كشفت هذه المواقف زيف أي ادعاءات بالحياد أو التعاطف مع القضية الفلسطينية من قبل هذه الجهات، بعد أن كان عملها في حقول الأبحاث والثقافة والتعليم في المنطقة العربية قد توسّع بمنأى عن رادار النقد الموجّه عادة للمؤسسات التابعة للولايات المتحدة أو القوى الأوروبية التقليدية كفرنسا وبريطانيا. لكن تاريخ ألمانيا وسياساتها الخارجية لم يكن بعيداً عن توجّهات هذه الدول قبل السابع من تشرين. وما حدث بعد «طوفان الأقصى» يدعو إلى مراجعة نقدية لتلك التوجهات وسياقها التاريخي واتخاذ العِبر منها في ما يخص التعامل المستقبلي مع أذرع وأدوات الهيمنة الثقافية والتنموية للدولة الألمانية في منطقتنا.
بخلاف فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، لا تحظى ألمانيا بصيت استعماري وتكاد تنحصر صورتها الشريرة عبر التاريخ الحديث في الحقبة النازية. وألمانيا النازية نفسها محطّ جدل في بعض الأوساط العربية. فالتيارات اليسارية تُدين النازية كونها نظاماً فاشياً معادياً للشيوعية، بينما ترى بعض التيارات القومية في القومية الألمانية مصدر إلهام وتجد في موقف هتلر من اليهود دعماً ولو غير مباشر لفلسطين.
يتبنّى الموقف اليساري الفكرَ الأوروبي دون تعديل ويُردّد الشعارات المعادية للفاشية بشكل تلقائي. وفي مرحلة النازية نفسها، انبرى العديد من الشيوعيين العرب لرفع لواء محاربة الفاشية في بلادنا دون الأخذ في الاعتبار تبعات ذلك على حركة التحرر من الاستعمارين الفرنسي والبريطاني. ولا يزال بعض الباحثين المحسوبين على اليسار يتبنّون أو يتباهون بهذا الموقف، وبينهم من ذهب إلى حد بذل جهود بحثية مضنية لسرد قصة تواصل أمين الحسيني مع هتلر. في الدفة الأخرى، تعكس المواقف القومية المتعاطفة مع النازية قصوراً في فهم تبعات النازية على استيطان فلسطين، وتنطلق كذلك من نظرة قومية شوفينية تتماشى مع المفهوم الأوروبي الكلاسيكي للقومية وهو مفهوم عنصري بامتياز.
يصبّ الموقفان، عن قصد أو غير قصد، في صالح المشروع الصهيوني. فكلاهما، المؤيد والمُدين للنازية، يحصر تاريخ أوروبا في الجغرافيا الأوروبية ويجعل من النازية حالة استثنائية منفصلة عن التطور التاريخي للنظام الألماني كجزء لا يتجزأ من النظام الرأسمالي والاستعماري الغربي ويرى التناقض الرئيسي، سلباً أو إيجاباً، في علاقة ألمانيا بالقوى الأوروبية الأخرى بدلاً من علاقة جميع هؤلاء بعالم الجنوب وبمنطقتنا على وجه التحديد. وتتجلى هذه المقاربة الأورو-مركزية في وصف المحرقة اليهودية، على هولها، كحدث فريد وخارج عن قوانين التاريخ والجغرافيا، وبالتالي المرجع الأوحد الأخلاقي لقياس العنصرية المتمثّلة حصراً في معاداة السامية.
إنّ وضع ما اقترفه النازيون من فظائع خلال الحرب العالمية الثانية في سياق التطور التاريخي للاستعمار الأوروبي عموماً، والألماني خصوصاً، لا يُبرّئ النازيين بقدر ما يدين الرجل الأبيض بكلّ أطيافه. فنظرية التفوّق العرقي التي تسِم الآخرين بما دون البشر وبما يشرّع إبادتهم، لم تكن حكراً على النازيين ولم تكن موجّهة في البداية نحو المجتمعات الأوروبية، بل نحو «الأعراق» الأخرى وبخاصة السوداء. إنّ أوّل إبادة جماعية في القرن العشرين لم تكن المحرقة اليهودية (أو الأرمنية) بل الإبادة الجماعية لشعب الهيريرو في جنوب غرب أفريقيا (ناميبيا حالياً)، وقد تمّت على يد الألمان بقيادة نظام ملكي دستوري لا تحت حكم نازي.
استعمرت ألمانيا مناطق عدة في القارة الأفريقية بموجب اتفاقيات تقاسم النفوذ الاستعماري الأوروبي في كل أنحاء العالم والتي وُضعت أسسها في برلين عام 1885. وبين عامي 1904 و1908، قامت القوات الألمانية، بقيادة الجنرال فون تروثا، بقتل ما يقارب 60 ألفاً من شعب الهريرو بحيث لم يبقَ منهم عام 1911 – وبحسب الإحصاءات الألمانية – سوى 15 ألف ناج. وقد جهر فون تروثا – كما يجاهر القادة الإسرائيليون اليوم بحق الفلسطينيين – بنيّته التخلّص من شعب الهيريرو، فأمر برميهم جميعاً بالرصاص، رجالاً ونساء وأطفالاً، ما لم يخرجوا من الأراضي الألمانية (يقصد الأراضي الأفريقية الواقعة تحت الاستعمار الألماني). ولام سياسته تلك على شنّ قوّات من الهيريرو هجوماً على القوات الألمانية (كما تلوم إسرائيل وحلفائها العرب «حماس» على ما يحلّ بغزة اليوم، وكما لاموا حزب الله على ما حلّ بجنوب لبنان عام 2006).
واللافت أن عملية القتل الجماعي تلك حدثت بعد الهزيمة العسكرية للهيريرو، أي بغياب أي تهديد عسكري للقوات الألمانية. واتخذت الإبادة أشكالاً مختلفة راوحت بين الشنق الجماعي وتقطيع الرؤوس وبين حصر أعداد كبيرة من الهيريرو في معسكرات أو ضمن أراض قاحلة كصحراء أوماهيكي من أجل تعطيشهم وتجويعهم حتى الموت وهو ما حدث بالفعل.
ما حدث بعد «طوفان الأقصى» يدعو إلى مراجعة نقدية لتلك التوجهات وسياقها التاريخي واتخاذ العِبر منها في ما يخص التعامل المستقبلي مع أذرع وأدوات الهيمنة الثقافية والتنموية للدولة الألمانية في منطقتنا
ساهمت حرب الإبادة على شعب الهيريرو في تذكية «علم» اليوجينيكس، أي تحسين النسل البشري، والذي استخدمه الأوروبيون لتبرير أشنع أنواع العنصرية ضد الشعوب الأخرى. فقد قام الألمان، كغيرهم من الأوروبيين، بنقل عيّنات من جماجم الهيريرو إلى أوروبا لـ«دراستها» وتبيان «الحقيقية العلمية» لتفوّق العرق الآري أو الأبيض عموماً. ويوجين فيشر، الذي شغل منصب كبير علماء اليوجينيكس في عهد الرايخ الثالث وساهم في تبنّي هتلر نظرية النقاء العرقي، كان قد زار جنوب غرب أفريقيا إبّان مجزرة الهريرو عام 1908 لإجراء اختبارات على مواليد الأزواج المختلطة عرقياً. وقد قدّم الألمان النصح للقيادات التركية أثناء حملتهم لإبادة الأرمن بعد سنوات قليلة من مجازر الهيريرو.
لا يعني ما تَقدّم وجود علاقة سببية مباشرة بين إبادة الهيريرو والإبادات الأخرى بما فيها المحرقة اليهودية أو الهولوكوست. لكن قضية الهيريرو تشير إلى دور الاستعمار التوسعي ومصالحه المادية في بروز نظريات التفوق العرقي وتطوير آليات الإبادة الجماعية بحق الشعوب غير الأوروبية قبل أن ينقلب السحر على الساحر وتقوم النازية بتطبيق تلك الممارسات على شرائح من المجتمعات الأوروبية كاليهود والسلاف وكل من اعتبرتهم أعراق «منحطّة».
إنّ كيفية تعاطي الدولة الألمانية بعد انقضاء الحقبة النازية – أي تحت حكم برلماني ديموقراطي هذه المرة – مع تداعيات إبادة الهيريرو، من جهة، واليهود الأوروبيين من جهة ثانية، دليل إضافي على البُعد الاستعماري للسياسات الألمانية العنصرية العابرة لأنظمة الحُكم. لقد مضى أكثر من قرن على حرب الإبادة الجماعية للهيريرو قبل أن تعترف الحكومة الألمانية بها. فبعد مفاوضات شاقة بينها وبين الحكومة الناميبية، أصدرت برلين عام 2021 بياناً مقتضباً اعتذرت فيه عن ما سمّته، وللمرة الأولى، بإبادة جماعية. لكنّها، وفي البيان نفسه، أعلنت أن هذا الاعتراف لا يُرتّب عليها أي تبعات قانونية لجهة تعويض الضحايا. كبديل عن تلك التعويضات، تعهّدت الحكومة الألمانية بدفع مبلغ 1,1 مليار يورو على مدى 30 عاماً (أي بمعدّل سنوي لا يتعدّى 37 مليون يورو) لتنمية وإعادة إعمار ناميبيا، وكأنها بذلك تكرّس المفهوم الكولونيالي الذي يرى في الغرب الراعي الأنسب لعملية التنمية في بلاد الجنوب.
في المقابل، وقبل مرور عقد على الهولوكوست، أبرمت ألمانيا الاتحادية عام 1952 اتفاقاً مفصّلاً مع كلّ من الحكومة الإسرائيلية ولجنة دولية تمثّل الحقوق المادية للجاليات اليهودية عبر العالم. بموجب هذا الاتفاق، دفعت الحكومة الألمانية وحتى اللحظة أكثر من 90 مليار دولار لأفراد عانوا من الاضطهاد النازي وخسروا ممتلكاتهم جرّاء ذلك. وفي عامنا هذا (2024)، ستقوم اللجنة اليهودية المفوّضة إدارة الملفّ بتوزيع أكثر من 1,4 مليار دولار كتعويضات وهبات لأفراد ومؤسسات خدماتية للناجين من الهولوكوست.
أمّا إسرائيل، فقد طالبت وحازت ضمن اتفاقية 1952 على تعويض بقيمة 1,5 مليار دولار (أي حوالي 17,5 مليار دولار بأسعار اليوم). اللافت أن إسرائيل لم تربط المبلغ بالتقديرات الموضوعة حول قيمة ما نُهب من ممتلكات لليهود أثناء الحكم النازي والتي حدّدتها إحدى المصادر بستة مليارات دولار (أي سبعون ملياراً بأسعار اليوم)، بل بكلفة إعادة توطين 500 ألف يهودي في فلسطين. وقد دُفع المبلغ عينياً لا نقداً عبر شراء المنتجات الصناعية لا الاستهلاكية من ألمانيا وتصديرها إلى فلسطين كي تساهم في إعمار إسرائيل. بكلام آخر، كرّس اتفاق عام 1952 إسرائيل كمتحدّث باسم اليهود عموماً وربط التعويض عن اضطهاد يهود أوروبا من قِبل الفاشية الأوروبية بالاستيطان في فلسطين من دون أي يأتي على ذكر أثر ذلك على حياة وحقوق الفلسطينيين الذين لم يتقاضوا، وبعد مضي 75 عاماً على النكبة، فلساً واحداً كتعويض عن اضطهاد الصهاينة لهم.
في عام 1933، أبرمت الوكالة اليهودية (وهي الحكومة الصهيونية في فلسطين قبل قيام دولة إسرائيل)، وبقيادة بن غوريون، اتّفاقاً مشابهاً لاتفاق 1952 لكن مع النازيين، عُرف حينها باتفاق هآفارا (اتفاق العبور). بموجب هذا الاتفاق، تعهّدت الحكومة النازية بتسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين شرط تنازلهم عن ممتلكاتهم في أوروبا ومقابل تحويل قيمة تلك الممتلكات إلى بضائع ألمانية تُصدّر إلى فلسطين. واجهت الاتفاقية آنذاك معارضة من عدة فصائل صهيونية اعتبرت التعامل مع النازيين خيانة لليهود وخرقاً لقرار مقاطعة البضائع الألمانية في ظلّ الحكم النازي. بالرّغم من ذلك، تم تنفيذ الاتفاقية، ما أدّى في السنوات القليلة اللاحقة إلى قدوم عشرات الآلاف من اليهود للاستيطان في فلسطين، وقد كانت تلك الموجة من الهجرات الاستيطانية أحد أسباب اندلاع ثورة 1936.
يُبرّر بعض الصهاينة تعاونهم مع النازيين بالشرّ الذي لا بُدّ منه من أجل إنقاذ اليهود من النازية نفسها. إن صحّ ذلك، لماذا يعايرون الحاج أمين الحسيني أو رشيد عالي الكيلاني عندما طلبا دعم النازيين للتخلص من الاستعمار البريطاني في العراق أو إنقاذ الفلسطينيين من الاحتلال الاستيطاني الصهيوني؟ ولماذا يقتصر النقاش عادة على تبرير أو إدانة تعاون العرب مع النازيين بدلاً من نقاش مسألة تعاون الصهاينة؟
لقد وصل التواطؤ بين الصهاينة والنازيين إلى حدّ قدوم أدولف آيخمان، الذي أعدمته إسرائيل عام 1962 لمشاركته في الهولوكوست، إلى حيفا عام 1937 للنظر في احتمال إمداد الميليشيات الصهيونية بالسلاح من أجل محاربة الإنكليز. ولا عجب في ذلك. لم يتعاطف النازيون مع العرب يوماً، وكانوا، كغيرهم من القوى الغربية، يعقدون التحالفات مع أي جهة يمكنها أن تضرّ بمصالح أعدائهم، أي بريطانيا أو فرنسا. وقد ساهموا في استيطان فلسطين من منظار معاداتهم للسامية عبر تحفيز طرد اليهود الأوروبيين دون أي اعتبار لتعبات ذلك على أهل فلسطين.
لم يكن هذا التعاون بين الصهيونية والنازية عرضيّاً. منذ نشوء الحركة الصهيونية في القرن التاسع عشر، تنبّه مؤسسها ثيودور هرتزل إلى تلاقي المصالح بين معادي السامية الأوروبيين الذين يريدون التخلص من اليهود والصهاينة الذين يريدون «عبورهم» إلى فلسطين. وقد حصل ذلك بالفعل عبر التاريخ ويتكرر الآن بين العديد من الأحزاب اليمينية المعادية للسامية ودولة الكيان. في المقابل، ومنذ أكثر من نصف قرن، تنبّه السياسي والأديب المارتينيكي إيمي سيزير إلى حقيقة الترابط بين السياق الاستعماري الأوروبي الذي أدّى إلى إزهاق الملايين من أرواح البشر من خلال الاستيطان والاستعباد وبين الفظائع التي ارتُكبت في أوروبا في الحرب العالمية الثانية.
والسياق الاستعماري هذا يفسّر اليوم الدعم المستمر لإسرائيل من القوى الغربية كافة، يميناً ويساراً، ويؤكد أنّ تحرير فلسطين من النهر إلى البحر يرتبط بموازين القوى العالمية وحصة الغرب منها. لم يكن موقف ألمانيا يوماً خارجاً عن هذا السياق، وإن تكشّف بعد «طوفان الأقصى» عن أبشع صوره. مهما آلت إليه الأمور في فلسطين، ستدخل ألمانيا الحديثة التاريخ من أسوأ أبوابه. في أقل من قرن ونصف قرن، اقترفت سلطات برلين إبادتين جماعيتين، في أفريقيا أوّلاً، وأوروبا ثانياً، ودعمت ثالثة في فلسطين بحجة التكفير عن الثانية.
* الأخبار اللبنانية.