قوة عظمى للعدوان والهيمنة
سعد الله مزرعاني – وما يسطرون|
تتكثّف وتتضاعف وتتنوَّع محاولات الخداع والتضليل الأميركية لتدارك أمور عدّة: الأول، استمرار العجز الإسرائيلي عن تحقيق أيّ إنجاز لمصلحة حكومة اليمين الفاشي العنصري بقيادة نتنياهو. هذه الحكومة تصرّ على اجتياح رفح وسط حصار ودمار وتجويع وتشريد، مع ما سيرافق ذلك، بالضرورة، من ارتكاب المزيد من المجازر والضحايا في صفوف 1,4 مليون فلسطيني يتشرّدون، ويتكدَّسون، ويتضوّرون، في ما وصفه أحد مسؤولي الأمم المتحدة بأنه «المعاناة الأسوأ في التاريخ الحديث». الثاني، افتضاح الموقف الأميركي كشريك في حرب الإبادة التي باتت، تحت أنظار العالم، شهادة إدانة أخلاقية وقيمية وسياسية وإنسانية لكل من تل أبيب وواشنطن، التي اعترف رئيسها بأن 90% من تدهور سمعتها في العالم، يعود إلى تأييدها للحرب الصهيونية على غزة. ثالثاً، ألحق الانحياز الأميركي إلى الكيان الصهيوني، إلى حدود الشراكة الكاملة في عدوانه: تبريراً، ودعماً شاملاً، ورعاية متواصلة… أضراراً فادحة بدور واشنطن «كوسيط» في النزاع الحالي، ما يحتاج إلى ترميم وتوقف ومراجعة بسبب أضرار ذلك على نفوذها في منطقة حيوية مهمة كالشرق الأوسط تزداد الصراعات فيها وعليها، بشكل متصاعد. رابعاً، السعي إلى إنقاذ إسرائيل من جموح ورعونة وعنصرية وهمجية حكومتها التي تزجها، بسبب مصالح شخصية، أيضاً، في أزمات تعزلها، وتتعارض مع دورها ووظيفتها في المنطقة، ما يضعف واشنطن ويصعِّب مهمتها في استمرار الهيمنة والتفرّد. خامساً، منع إلحاق هزيمة بإسرائيل حكومةً وجيشاً ومستوطنين ومشروعاً، لأن هزيمة إسرائيل، كما حذَّر المجرم نتنياهو بحق، هي هزيمة لأميركا وللغرب عموماً، فيما هو يطالب بالمزيد من الدعم، أي بارتكاب المزيد من المجازر كسبيل وحيد لتحقيق «أهداف الحرب»، كما يكرّر دائماً.وسط إرباك وتعقيدات، وفي ظروف معركة داخلية ضارية بين الرئيس الحالي والرئيس السابق، تتحرك الإدارة الأميركية، حالياً، للتوفيق بين عدّة متناقضات: 1) ضرورة إقرار هدنة إنسانية لتخفيف خسائر واشنطن الأخلاقية، ولعدم تحميلها المزيد من المسؤوليات عن جرائم التدمير والقتل والتجويع والإبادة بشكل عام. 2) ضرورة كسب الوقت لمنع إدانة حكومة الكيان الصهيوني، ولتمكينها من تحقيق إنجاز ما، يصبح، أكثر فأكثر، صعباً ومشروطاً بارتكاب مجزرة بشرية لا مثيل لها ضد المدنيين في رفح. 3) محاولة صيانة تحالفات أميركا في المنطقة، وخصوصاً مع المطبّعين القدماء والجدد، بما لا يلحق أضراراً مباشرة أو مؤجّلة بأنظمة حكمهم وبنفوذ واشنطن عموماً في المنطقة. لهذا الغرض، استدعت الحكومة الأميركية وفداً إسرائيلياً للحضور إلى واشنطن، من أجل التداول في السبل الممكنة لـ«تدمير حماس» والمقاومة في غزة، من دون ارتكاب مجزرة هائلة ضد المدنيين. ولإنضاج شروط ذلك، حضر أيضاً الوزير بلينكن، تواكبه الضغوط والإغراءات (لمصر خصوصاً) لتعبئة الحلفاء: في مصر والسعودية والإمارات والأردن، ودائماً «بوساطة قطر وبالشراكة معها»، وبحضور السلطة الفلسطينية في نطاق اجتماع «السداسية». يمكن تحديد هدفي واشنطن الراهنين بأمرين: الأول، «شطب حماس» والمقاومة عموماً، من مرحلة «اليوم التالي» في غزة. الهدف الثاني، وتحت عنوان «حل الدولتين» المخادع، إقامة سلطة فلسطينية مدجّنة بالكامل، في الضفة والقطاع، تلبي الشروط الأمنية للكيان الصهيوني، وتعمل تحت وصاية الأميركيين وحلفائهم.
تحولت واشنطن إلى قوة عدوانية أولى كبرى في العالم
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية التي أرادتها واشنطن نهاية لحرب «ساخنة»، وبداية لحروب «باردة» ومتنوعة مفتوحة، حرصت على أن تكون القوة الأعظم في العالم، إذا لم تكن القوة العظمى الوحيدة. دفعت أقل التكاليف في الحرب العالمية الثانية، وحصدت أكبر الأثمان. دشنت مسار جبروتها ومشروع هيمنتها الإمبريالية الكونية بـ«عصا» قنبلتي ناكازاكي وهيروشيما في اليابان المستسلمة، وبـ«جزرة» مشروع مارشال في ألمانيا وأوروبا. نال الشرق الأوسط حصة كبيرة من اهتمام واشنطن. من مشروع آيزنهاور في خمسينيات القرن الماضي، إلى «صفقة القرن»، آخرة مشاريع «الشرق الأوسط الكبير» الترامبي، ترعى واشنطن وتبرر وتغذي كل مغامرات إسرائيل العسكرية، بوصفها رأس حربة لمشروع الهيمنة الأميركية في المنطقة ذات الثروات الهائلة والموقع الجيو-إستراتيجي المهم بين قارات العالم القديم.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في مطلع تسعينيات القرن الماضي، تخطّت واشنطن عقدها في فيتنام، وانطلقت إلى احتلال أفغانستان والعراق ضمن عقيدة «الحروب الاستباقية»، وبواسطة «قوة أميركا غير القابلة للتحدي»، والموضوعة في خدمة مصالحها كقوة استعمارية إمبريالية، تحاول أيضاً، وبواسطة العنف والأساطيل والقواعد العسكرية والديكتاتوريات العميلة والانقلابات العسكرية والثورات الملونة، فرض «نمط الحياة الأميركي» على العالم. وهي بذلك استأنفت تاريخاً تأسيسياً قام على إبادة السكان الأصليين في الولايات المتحدة نفسها. بهذا المعنى، فتل أبيب هي تلميذ نجيب لواشنطن، وقبلها للندن، كمشروع استيطاني احتلالي عدواني يشمل فلسطين وكل «إسرائيل الكبرى» «من الفرات إلى النيل». ولم يتردّد نتنياهو، في مجرى تبايناته مع الأميركيين، بتذكيرهم بما فعلوه مع الهنود الحمر في بلدهم، وباستخدامهم للقنبلة الذرية ضد مدن يابانية، للمرة الأولى في التاريخ.
وفقاً لما تقدم وسواه، تحولت واشنطن إلى قوة عدوانية أولى كبرى في العالم: حاضرة في كل أزماته (تصنعها أو تغذيها أو تستغلها)، وخصوصاً في الشرق الأوسط، وفي فلسطين. هذا الاستنتاج سيكتسب أهمية كبرى عندما تجري ترجمته في مشاريع وخطط تحررية تجتمع فيها عدّة عناوين أساسية: تحرير الأرض، حق الشعوب في تقرير مصيرها، الدفاع عن السيادة الوطنية، تحرير الثروات الوطنية، إزالة أدوات السيطرة العسكرية والأمنية الأجنبية، من قواعد وأساطيل وعلاقات ومعاهدات تنتقص من السيادة والحقوق والحريات… تتصل بذلك مواجهة السلطات والأنظمة التابعة لواشنطن، والتي تشكل مرتكزات نفوذها وهيمنتها، وأيضاً إدارة نشاط سياسي وإعلامي شامل ضد مزاعم واشنطن في ما يتعلق بحقوق الإنسان والمساواة والديموقراطية، والتي وقعت في شركها قوى يسارية نظّرت لدور إيجابي لدول المتروبول الاستعمارية في إسقاط بعض الديكتاتوريات كما حصل في العراق. إنّ النظام الرأسمالي الأميركي الذي بلغ «أعلى مراحله»، يرتدّ، أمام جدية المنافسة من قبل تشكيلات حديثة، نحو صيغ وممارسات عنصرية وعنفية انكفائية، على غرار ظاهرة الترامبية ومثيلاتها في بعض الرأسماليات الأوروبية العريقة.
في لبنان، تتمتع واشنطن بنفوذ كبير ومهيمن: على مستوى السلطة، وفي الحقول الاقتصادية والمالية والعسكرية والأمنية والسياسية، ما يجعل سلطات هذا البلد، رغم أزماته القاتلة، عاجزة عن التحرك سنتيمتراً واحداً خارج الهيمنة الأميركية. ذلك يتطلّب صياغة برامج تنطلق من هذا الواقع. وهي برامج ستستند، بالضرورة، إلى قاعدتها الاجتماعية اللبنانية الطبيعية، وتكون جزءاً من تيار تحرّري واسع على المستويات المحلية والإقليمية والدولية.
* الأخبار اللبنانية.