الأميركي، «وسيط» أم عدوّ؟!
سعد الله مزرعاني – وما يسطرون|
بوتيرة تساوي وتيرةَ تدفق أبرز قادة دول الأطلسي إلى الكيان الصهيوني، لإعلان دعم شامل وغير مسبوق لعدوانه على غزّة (بذريعة «حق الدفاع عن النفس»)، تدفقت وفود غربية، من مسؤولين في تلك الدول، إلى بيروت، ولا تزال. أمّا الهدف فمزدوج: الأول، الحؤول دون إقدام المقاومة اللبنانية على فتح جبهة لبنان تضامناً مع غزّة. الثاني، إحكام الحصار على القطاع وتصوير مقاومته ومواطنيه مرتكبين ومعزولين، ويستحقون أقصى وأقسى عقاب على يد آلة التدمير والإبادة الصهيونية. من شعار عدم «توسيع الحرب» (والمقصود استفراد غزّة ومقاومتها وشعبها) إلى تعطيل مجلس الأمن والأمم المتحدة ووكالاتها الإغاثية العاملة وذات الصلة، وخصوصاً «الأونروا»، انخرطت واشنطن في حماية العدوّ وتوفير كل أشكال ووسائل الدعم له على أمل أن يتمكن جيشه من تحقيق إنجاز، عزَّ، حتى بعد أكثر من خمسة أشهر، بسبب تضحيات وبطولات مدنيّي القطاع ومقاوميه، ما منع العدوّ من تحقيق أيٍّ من أهدافه رغم هول ما ارتكبه من مجازر وما توسّله من أساليب همجية.بعد تبرير العدوان والمشاركة في قيادته وتنفيذه (إلى حدٍّ كبير)، واكبت واشنطن خطواته ومراحله، بتمثيل دور «الوسيط»: من أجل تكريس نجاحاته في حال انتصاره، وتدارك خسائره وتقليصها، في حال انكساره! السياسة الأميركية ذات خبرة مديدة وتقاليد عريقة في هذا السياق: على مستوى المنطقة عموماً، وعلى صعيد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي خصوصاً. أسّست واشنطن لهذا الدور، منذ العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 (بعد تأميم قناة السويس) الذي استغلّته واشنطن من أجل تحجيم ووراثة نفوذ الاستعمارَين الإنكليزي والفرنسي… بعد ذلك، وإثر فشلها في «تحييد» القائد التحرري الكبير جمال عبد الناصر، بالاحتواء أو بالتصفية، أنجزت اختراقها الكبير (بعد وفاته المبكرة والمثيرة للتساؤل!) عبر خليفته أنور السادات الذي استبدل حرب التحرير بحرب «التحريك»، متحوّلاً إلى الحضن الأميركي بوصف واشنطن حاملة «99% من أوراق» لعبة الصراع في المنطقة: فكان «كامب ديفيد» وكانت المعاهدة المصرية الإسرائيلية (26 آذار 1979)!
مذ ذاك، استأثرت واشنطن، تقريباً، برعاية العدوّ الصهيوني وتوجيهه ودعمه، وتأمين تفوّقه العسكري الذي بات ركناً محورياً في سياستها الشرق أوسطية. واكب ذلك، دائماً، عمل سياسي وديبلوماسي وإعلامي، مقترناً بضغوط متنوّعة، لتحقيق الجوهري من أهداف الصهاينة في فلسطين والمنطقة: (1) تكريس الاحتلال والتوسّع فيه إلى كامل الأراضي الفلسطينية (2) إدماج «إسرائيل» في المنطقة، قوة محورية في نطاق خطة الهيمنة الأميركية الشاملة عليها (3) مناهضة وتشتيت كل جهد فلسطيني أو عربي يذهب في غير اتجاه تصفية القضية الفلسطينية وإخضاع المنطقة العربية والشرق أوسطية عموماً للنفوذ الصهيو – أميركي. وقع دور «الوساطة» الأميركية، دائماً، في خدمة تلك السياسات والتوجهات. سهّل ذلك التواطؤ الرسمي العربي، ما عزّز الاستفراد الأميركي وإبعاد كل الفرقاء الآخرين: الأمم المتحدة وهيئاتها – الاتحاد الأوروبي – روسيا… نجم عن ذلك اتفاقيات «السلام» مع دول الطوق وم. ت. ف، واستفراد الأطراف وتشتيتها، وتحقيق إنجازات صافية لمصلحة العدوّ مع «دول الطوق»، والتراجع عن وعود وبنود في الاتفاقيات لمصلحة القضم والضمّ وتوسيع الاستيطان… وصولاً إلى حلقات التطبيع (خصوصاً مع دول الخليج) التي تمّت كلها بـ«وساطة» واشنطن وضغوطها. ثم إن واشنطن، وفي مجرى محاولات بعض رؤسائها وإداراتها لترسيخ مشروعها الإمبريالي العولمي وتعزيزه، أحلّت الشرق الأوسط، أحياناً، في مقدمة اهتماماتها. وهي صاغت للسيطرة على مصيره ومقدراته مشاريع محددة، بدور محوري للكيان الصهيوني، وبتناغم مع تطلّعات بعض قادته (ومنهم بيريز): «الشرق الأوسط الكبير» (بوش الابن)، و«صفقة القرن»(ترامب)…
سمحت واشنطن، بمواقفها وعلاقاتها وضغوطها، بأن يكون الصهاينةُ حاضرين على طرفَي الحدود والجبهات: سياسياً، وحتى عسكرياً أحياناً!
في الاختبار الغزاوي الفلسطيني الراهن، تواكبُ واشنطن، منذ البدء، وبحضور طاغٍ، عملية الإبادة، موجّهة وشريكة: في الميدان بحراً وبراً وجواً، وفي السياسة والديبلوماسية والإعلام والمنابر الدولية، كما في قاعات المفاوضات وكواليسها. هي تدير حملاتها باستخدام «شركاء» معلنين أومحجوبين، هم، عموماً، تابعون وأدوات لها. هذا ينطبق على «رباعية» باريس أو القاهرة حالياً. قد تفرض وقائع ومجريات الحرب، كعجز العدوّ وكاستخدامه للتدمير والتجويع والإبادة ضد المدنيين، أن تتمايز واشنطن حرصاً على بعض المظاهر أو لتقليل الخسائر وترشيد الأداء. إلا أنها لا تتخطّى أو «تخطئ» في الأساسيات! إذ هي تسارع إلى التأكيد على أنها، مهما تعاظم الارتكاب والإجرام الإسرائيليان، لن تتخلّى أبداً عن الدعم الشامل لمعركة العدوّ. ويحدث الآن، وبعد تفاقم فشل إسرائيل وخسائرها، رغم المجازر المروّعة، وبسبب الحملة العالمية الهائلة شجباً لهمجيّته ولداعميه، أن واشنطن لجأت إلى التضليل والتهريج عبر المساعدات المجوقلة: تغطية للحصار الصهيوني القاتل بالمجازر والتجويع، ولتهدئة نقمة انتخابية، ضدّ المرشح بايدن المتعثر في السباق الرئاسي إلى البيت الأبيض.
وفَّرت واشنطن، بمواقفها وعلاقاتها وضغوطها، وبتنكّرها بدور «الوسيط» خصوصاً، أن يكون الصهاينةُ حاضرين على طرفَي الحدود والجبهات: سياسياً، وحتى عسكرياً أحياناً! في السياق، وصل إلى لبنان قبل أسبوع وفد وزارة الخزانة الأميركية الذي هدَّد وأنَّب لأن رواتب لـ«حماس» و«حزب الله» تأتي وتوزع من لبنان، ما يمكّن هؤلاء «الإرهابيين»، حسب التوصيف والتصنيف الأميركيين، من استمرار القتال! لم يعترض أحد على هذه المهمة القذرة! بل إن الوفد التقى جهات رسمية، سياسية ومالية، وجهات غير رسمية («القوات»، و«مدنيّة» متعاونة مع السفارة الأميركية: «كلّنا إرادة»…)، لمواكبة مهمته وتعزيزها بحملة سياسية وإعلامية ضد «حماس»، وضد طرف لبناني هو جزء من السلطة الشرعية في البلد! أمّا الوسيط و«ملك لبنان» كما وصف نفسه، عاموس هوكشتين، فقد كرَّر زياراته مستنداً إلى نجاحٍ أحرزه في ملف الترسيم البحري الذي حقق للعدوّ مكاسب مهمة، كانت، أكبر بكثير لولا تدخل المقاومة مهدِّدة مجمل المفاوضات آنذاك. الرجل إسرائيلي خدم في أثناء غزوه للبنان. وهو جاء لهدف محدَّد: التهديد بحرب شاملة ما لم تهدأ جبهة لبنان، ويتمكن المستوطنون (يكلّف إيواؤهم الدولة الصهيونية 30 مليون دولار يومياً)، وفق ترتيبات أمنية وآمنة لمصلحة العدوّ! لكن «الوسيط» المزعوم اصطدم بصلابة موقف المقاومة في ربط وقف النار في لبنان، أولاً، بوقف الحرب على غزة.
يطرح كل ما تقدم، بين أمور أخرى، أحد أكبر الأسئلة: هل يجوز الاستمرار في التعامي عن حقيقة الدور العدواني الأميركي المتعاظم والوقح والخطير، والتعامل مع واشنطن، في لبنان والمنطقة، على أنها وسيط فريد ومتفرّد، ونزيه، أيضاً؟!