وليمة القتل بين بايدن ونتنياهو
سعد الله مزرعاني – وما يسطرون|
عد تسريبات لقناة «الجزيرة» حول بنود «إطار جديد» لصفقة تبادل وترتيبات هدنة، يُفترض أن تؤدي إلى وقف إطلاق نار، بين العدو الصهيوني والمقاومة في غزّة، سارع الرئيس الأميركي جو بايدن، يوم الثلاثاء الماضي، إلى تحديد يوم الإثنين القادم (بعد غد) موعداً لبدء تنفيذ الاتفاق وسريان الهدنة! ما هو الوضع الفعلي، في الطور الراهن من الحرب الصهيونية على غزّة؟ ولماذا بكّر الرئيس بايدن في الإعلان عن صفقة سارعت إسرائيل إلى استغراب الإعلان عن موعد بدء تنفيذها، وأكّد المندوب القطري المعني أنها ما زالت قيد تفاوض معقّد؟ثمّة، في نطاق الشراكة الأميركية – الإسرائيلية في علاقتهما عموماً، وفي العدوان على الشعب الفلسطيني والغزّاوي، خصوصاً، مشتركات كبرى وتباينات صغرى. أمّا المشترك الأهم فهو تمكين العدو من إحكام القبضة على كامل فلسطين، وإدماج الكيان الصهيوني في المنطقة، قوةً سياسية وأمنية واقتصادية… محورية: في نطاق هيمنة أميركية كاملة على الشرق الأوسط الواسع الممتد من موريتانيا إلى باكستان. التباينات، بين الطرفين، في الشأن الفلسطيني، تحضر، أحياناً، في التفاصيل والإجراءات. وهي تشمل، حسب المتغيّرات والتوازنات: مسائل، كحجم الوجود الديموغرافي الفلسطيني ومواقع توزّعه وحضوره في الكيان المغتصب، موقع الفلسطينيين في دولة الكيان «اليهودية»، مسألة إدارة المناطق ذات الأكثرية الفلسطينية، نوع الإدارة أو «السلطة الفلسطينية» وحدودها ووظيفتها، الموقف من القدس وخصوصاً المسجد الأقصى فيها، موضوع المستوطنات ووظيفتها وحجمها. وآخر القائمة وليس أخيرها، الوسائل المناسبة لتحقيق الهدف الكبير المشترك.
يصادف الآن، في الطور الراهن من المعركة خصوصاً، أن الرئيسين الأميركي والإسرائيلي يواجهان وضعاً استثنائياً: الأول في سعيه لتجديد ولايته في تشرين الثاني المقبل، والثاني في معاناته من وضع حساس على المستوى السياسي والشخصي، بما يجعله متأرجحاً، حسب نتائج الحرب: ما بين تجديد زعامته وحكمه، أو دخول السجن مداناً بالإخفاق والفساد!
واشنطن، في المحصّلة، تريد أن تكون «الدولة الفلسطينية» تلك، خاضعة لإسرائيل مع بعض الشكليات والتدرّج الذي تقتضيه المستلزمات الضرورية في المنطقة
من جهته، الرئيس بايدن وبحكم موقعه ومصلحته، سارع، منذ البداية، إلى توفير كل الدعم للقيادة في تل أبيب ولنتنياهو شخصياً. وهو كان يأمل، من خلال الحرب على غزّة، أن يحقق ثلاثة أهداف:
1- دعم المشروع الاغتصابي الصهيوني في فلسطين.
2- تعزيز النفوذ الأميركي في المنطقة بعد خيبات العراق وأفغانستان، ما يزيد فرصه الانتخابية.
3- تعزيز حظوظه في كسب دعم جماعات الضغط الصهيونية ذات النفوذ الكبير في معركته الرئاسية.
لم تسر الرياح كما اشتهت إدارة بايدن بسبب الإخفاق الإسرائيلي أمام بطولة المقاومين وصمود المدنيين في غزة. هو بدأ يلاحظ، بالأرقام، وبقلق متزايد، أن موقفه الحامي للمجازر الإسرائيلية خصوصاً (والتي تفاقمت وحشيتها كأسلوب رئيسي في خطة العدو العسكرية)، قد بدأ ينعكس سلباً على جزء مهم من مؤيديه ذوي الأصول الآسيوية والأفريقية… دلَّت على ذلك التظاهرات والاستطلاعات والانتخابات التمهيدية والوفود المحتجّة والمطالبة… لذلك، وإزاء التعنّت الإسرائيلي، اضطُر أن يطلق بعض «التنتيعات» ذات الوظيفة المحددة: تخفيف الخسائر الأميركية، بالتمايز عن موقف نتنياهو وفريقه الفاشي المتطرف الحاكم. ثم إن الرئيس الأميركي المضطر للدفاع عن الموقف الإسرائيلي، من حيث المبدأ، كان عليه أن يتعامل مع مسألتين ضاغطتين: الأولى، أن واشنطن عطَّلت، للمرة الثالثة، منفردة تماماً، مشاريع قرارات وقف إطلاق النار وآخرها المشروع الجزائري. وهي علّلت ذلك بعدم إفساد محاولة التوصل إلى تفاهم (لـ«تحرير الأسرى الإسرائيليين» بوصفه أولوية أميركية دائمة). لذلك وجدت نفسها مطالبة بترجمة ذلك فعلياً، لكي لا تُتهم، مرةً جديدة، بأنها شريكة في العدوان وفي الإبادة. يتصل بذلك، أيضاً، أن واشنطن تحاول، من خلال الإيحاء بقرب حصول الصفقة، حماية تل أبيب في «محكمة العدل الدولية»، فضلاً عن حماية نفسها أيضاً، باعتبارها، حسب مداخلات كل الدول أمام قضاة المحكمة، شريكة في المسؤولية، وفي حماية ارتكابات إسرائيل، عبر وضع تل أبيب فوق القانون الدولي: مُعفاة من المساءلة أو العقوبة!
في الجانب الإسرائيلي، وبأمر مباشر من نتنياهو، استمر الإصرار الدائم على مواصلة المذبحة والإبادة، وعلى تهجير الفلسطينيين، وعلى اقتحام «رفح»، وعلى استخدام القوة فقط (وليس التفاوض والصفقات) لتحقيق «أهداف الحرب»: تصفية «حماس»، وإعادة احتلال غزة، وتحرير المحتجزين بالقوة…رغم أن الواقع والوقائع كانا يسيران بعكس ما يريد، ما زاد في الخسائر الإسرائلية البشرية والعسكرية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية، وترك مزيداً من النتائج السلبية على إدارة بايدن. واقع الأمر أن نتنياهو وجد نفسه أمام معادلة لا يُحسد عليها: النصر يتطلب أعجوبة، والتفاوض يقود إلى انتصار المقاومة، كما صرّح هو نفسه مراراً! هنا رمت واشنطن بكل ثقلها في المفاوضات، بدعم من دول التطبيع، لتمكين إسرائيل (ولو رغماً عنها!) من أن تحقق، في المفاوضات، ما عجزت عن تحقيقه في الميدان! يضاف إلى هذه التعقيدات أن الرئيس بايدن يعتبر نتنياهو حليفاً لترامب. وهو كان وصف حكومته، قبل الحرب، بأنها «الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل». ونتنياهو، من جهته، يعتبر بايدن داعماً لفريق المعارضة. في مجرى تلك الصعوبات، ومدعوماً من فريق صهيوني في إدارة بايدن، أصر نتنياهو على موقفه مطالباً بتأييد مطلق من قبل الرئيس الأميركي لكل خططه ومواقفه (بما فيها الجانب الشخصي وربما أن في أساسها هذا الجانب). والعكس صحيح بالنسبة إلى بايدن الذي عليه أن يراعي مقتضيات نجاح معركة حزبه ومعركته الانتخابية، وحساسيات ومصالح شركائه العرب بمن فيهم المطبِّعون. لذلك اندلع صراع علني حول «حل الدولتين»، وحول «المساعدات الإنسانية»، وحول المفاوضات نفسها. وهو ليس صراعاً مبدئياً ولا حتى جدياً، إذ إن واشنطن، في المحصّلة، تريد أن تكون «الدولة الفلسطينية» تلك، خاضعة لإسرائيل مع بعض الشكليات والتدرج الذي تقتضيه المستلزمات الضرورية في المنطقة.
ستكشف هذه المعادلة، مهما كانت النتائج أو المظاهر، الحجم الهائل للنفوذ الصهيوني في الدولة الأميركية الظاهرة والعميقة. وهي تتفاعل وتتفاقم، بشكل بالغ الخطورة، على حساب دور الدولة الأعظم نفسها في العالم. وكذلك على حساب القيم الإنسانية، ومكتسبات القانون الدولي، لجهة ضوابط الحروب والكوارث، ووسط دمار هائل وآلام مروّعة، يكابدهما الشعب الفلسطيني بشكل لا سابق لمسببيهما في الإجرام والهمجية. إلا أن كل ذلك لم يمنع المقاومة والشعب الفلسطيني من أن يسطّرا تضحيات وبطولات وإنجازات مدهشة ذات بعد تحرري عالمي هي الأخرى، وعلى طريق النصر والتحرير!