رفح و«الأونروا» والإبادة… وواشنطن
سعد الله مزرعاني – وما يسطرون|
بعد صدمة، بل فجيعة «طوفان الأقصى»، ثمّة من قرر في كيان العدو، تحويل الأزمة – الانتكاسة إلى فرصة. من قرّر وسارع إلى إعلان ذلك، منفعلاً ومهدداً، كان رئيس الحكومة نتنياهو، بقوله إن «خريطة جديدة للشرق الأوسط سيجري رسمها بعد الحرب». استند الرجل إلى مناخات المزاج الشعبي الإسرائيلي المشبع بالعنصرية، كما إلى التحالف اليميني المتطرف الفاشي الموجِّه للحكومة. وقد استند خصوصاً إلى الدعم المطلق الذي منحه إياه أقطاب «الناتو» بقيادة واشنطن. هكذا، وجد نتنياهو فرصة من أجل معالجة أزمة خضوعه للمحاكمة بسبب ملفَّي الفساد سابقاً، والتقصير والإخفاق إثر محنة «طوفان الأقصى».خلال أكثر من أربعة أشهر، ورغم حشد كل الجيش بمحترفيه واحتياطييه، ورغم الاستخدام المفرط للقوة، وما نفّذته حكومة نتنياهو من مجازر إبادية هائلة ضد المدنيين والأطفال خصوصاً، وتدمير مجنون لكل من وما في قطاع غزة، وتهجير همجي قاتل ضد السكان، لم يتمكن العدو من تحقيق أيٍّ من أهدافه. لكنّه تكبّد، بسبب مقاومة بطولية ومقتدرة وعنيدة وصمود مدني أسطوري، خسائر غير مسبوقة: بشرية وعسكرية واقتصادية ومعنوية وأخلاقية. وخلافاً لتوقعاته، وجد العدو نفسه في مواجهة عدة جبهات، فعّالة ومهمة، في لبنان والعراق وسوريا واليمن، وكذلك في مواجهةٍ مع معظم العالم، ومن ثمّ، في قفص «محكمة العدل الدولية»، مُتَّهماً بارتكاب إبادة جماعية وجرائم حرب، وانتهاك القانون الدولي الإنساني.
بيد أن الحكومة الصهيونية تواصل حربها بإصرار أرعن وإجرامي مسعور! هذا، رغم الحملة العالمية السياسية والشعبية الكبيرة، ورغم مواقف مؤسسات الأمم المتحدة، ومؤسسات الاتحاد الأوروبي، ورغم أنها موضوعة تحت رقابة وشروط «العدل الدولية». ويمكن القول إنه، في موضوع تطويق وتهديد وقصف مدينة رفح (تمهيداً لاقتحامها)، بعدما أكره الجيش الإسرائيلي، بالدمار والمجازر والحصار، حوالي 1,2 مليون مواطن للهجرة إليها (زائداً حوالي 250 ألف من سكانها)، فإنه لم يبقَ سوى واشنطن، من يبرر للصهاينة مواصلة القتل! حتى المطلب الأميركي بـ«تخفيف الخسائر بين المدنيين»، تخلّت عنه واشنطن مطلع هذا الأسبوع، حين تبنى مستشار الأمن القومي الأميركي، جايك سوليفان، بعد اجتماعات القاهرة، ذريعة نتنياهو بأن «حماس تتخذ من المدنيين دروعاً بشرية»! ويكشف هذا الموقف المخزي والإجرامي، مرة جديدة، أن تل أبيب حين تعتدي وتنتهك وتقتل إنما تفعل ذلك بتشجيع أو دعم أو حماية من واشنطن وتحت إشرافها. وهنا يكمن سر هذه الوقاحة الإسرائيلية في تحدي العالم، وفي المضي بسلوكها الهمجي على النحو الذي تتكامل أهدافه وخطواته كنهج مشترك أميركي إسرائيلي. الهدف الكبير، كان ولا يزال، بالنسبة إلى العدو الصهوني، تصفية شعب فلسطين وليس فقط حقوقه وقضيته (نظرية الصهاينة هي أن الفلسطيني الجيد هو، فقط، الفلسطيني الميت!). أما بالنسبة إلى الراعي الأميركي، فالهدف، كما أكّد المستشار نفسه، يتمثّل في «الدفاع عن المصالح القومية الأميركية»، والتي يخدمها، فقط، انتصار الكيان الصهيوني. وكل ما عدا ذلك، في بعض المواقف الأميركية هو من قبيل الخداع وتحسين الصورة، وتقليل الأخطاء والخسائر المادية أو المعنوية.
لا يخلو الواقع من محاولات تحقيق تحويل المحنة إلى فرصة، حالياً، استناداً إلى عدّة محاور نشِطة
ولا يخلو الواقع من محاولات تحقيق تحويل المحنة إلى فرصة، حالياً، استناداً إلى المحاور النشطة الآتية:
– المحور الأول: استمرار الدعم السياسي الأميركي للاعتداءات الإسرائيلية، وتغطية كل المجازر والارتكابات بذريعة «حق الدفاع عن النفس»، ولو في وجه كل العالم. وذلك يتصل بدعم عسكري (جسور مفتوحة جواً وبحراً) واقتصادي ومالي (14 مليار دولار) وديبلوماسي واستخباري. بالإضافة إلى تبني الرواية الإسرائيلية، إعلامياً، والتي تكاد تتهم كل العالم بـ«معاداة السامية»، تبنٍّ فوري لأكاذيب العدو بشأن دور ونشاط منظمات الأمم المتحدة وخصوصاً وكالة «الأونروا»، والمبادرة إلى حجب التمويل عنها من قبل واشنطن و14 دولة حليفة لها. وقد حصل ذلك، دون أن تكلِّف واشنطن نفسها، عناء التدقيق وانتظار التحقيق، ورغم أن مدير الوكالة، فيليب لازاريني، سارع إلى اتخاذ تدبير فوري قصووي، ودون تحقيق، بإيقاف المجموعة وإلغاء عقود أفرادها، وفتح تحقيق شامل بشأن الاتهامات الإسرائيلية. موقف تل أبيب وواشنطن والأتباع، يستهدف، بعدما عطلت واشنطن دور «مجلس الأمن»، الرفض والتشكيك بما تعلنه أو تمارسه كل المؤسسات التابعة للأمم المتحدة: من «محكمة العدل الدولية»، إلى «الجمعية العامة للأمم المتحدة» إلى أمينها العام، وصولاً إلى «الأونروا» – الشاهد الدولي على جرائم الاغتصاب والتشريد والتهجير، وعلى حق العودة، والتي قتلت إسرائيل، عمداً، 132 من موظفيها منذ 7 أكتوبر الماضي، ولا سيما أن إبعاد «الأونروا» عن المشهد الحالي هو مساهمة في إحكام الحصار على سكان رفح والنازحين إليها، في محاولة لإشاعة اليأس بين السكان وفرض العزلة والتنازلات على المقاومة، فيما يسعى الصهاينة وواشنطن، في «اليوم التالي» للحرب، إلى فرض وصاية مباشرة على قطاع غزة (بالتواطؤ مع عرب واشنطن)، إذا فشلت حكومة نتنياهو في فرض سيطرتها المباشرة عليه!
– المحور الثاني: إخضاع رفح والتهجير. وهو هدف كبير وركن أساسي في مشروع التصفية الشاملة للقضية الفلسطينية. كما أنه، مرحلياً، هدف تعويضي مهم جداً، بعد تعذر أو تأخر تحقيق أهداف هزيمة المقاومة واستعادة الأسرى والسيطرة على القطاع. واشنطن تدعم وتبرر، رغم ضخامة المجزرة القائمة والمتوقعة، فيما تل أبيب تصرّ رغم الرفض العالمي الشديد. من أجل هذا الهدف في مديَيه العاجل والآجل، كانت المجازر والتدمير الشامل الذي رمى ولا يزال يرمي إلى جعل الحياة مستحيلة في القطاع. وكل ذلك يجري بمواكبة أميركية ديبلوماسية يقودها الوزير بلينكن الذي سارع إلى الإعلان عن نفسه «يهودياً قبل أن يكون أميركياً»، بهدف تمكين تل أبيب في أن تحقق في المفاوضات ما عجزت عن تحقيقه في الميدان! هكذا، يعيد التاريخ نفسه، هذه المرة، لكن بصورة كوارث وجرائم أكثر هولاً وهمجية؛ كانت جريدة «النهار» قد كتبت في عددها الصادر في 3/6/2010 ، وتحت عنوان عريض (المانشيت): «نتنياهو يرفض رفع الحصار عن غزة وواشنطن تستغرب الضجة»، على اعتبار أن «نتنياهو رفض الانتقادات الدولية» للهجوم الدموي على سفن «أسطول الحرية» لكسر الحصار على غزة، موضحاً أن «هدف الحصار هو منع حركة حماس من الحصول على صواريخ تطاول تل أبيب والقدس». وفي مقابل الضغط الدولي، ودعوة الأمين العام للأمم المتحدة، آنذاك، بان كي مون، إلى رفع الحصار فوراً، لقيت تل أبيب حينها مساندة من واشنطن، إذ برّر نائب الرئيس الأميركي، جو بايدن، العملية الإسرائيلية، مستغرباً «الضجة الدولية حولها».
على أيّ حال، الشعب الفلسطيني ثابت في صموده ومقاومته. أما بالنسبة إلى واشنطن وتل أبيب، فالارتباك والخيبة سيّدا الموقف، وفيما كانت الأولى تحاول إنقاذ إسرائيل من أخطائها، من سينقذ واشنطن من نفسها الآن، بعدما أضحت مسؤولةً أولى عن تغطية الجريمة والمشاركة فيها؟!