عن يمن المسيرة، وعن يمن ما قبلها (الجزء الثاني)
مصطفى عامر – وما يسطرون|
سيبقى السؤال على هذا النحو- ودائمًا- قائمًا:
لماذا انتهج الشهيد القائد “سلام الله عليه” مبدأ “الهدي القرآني” أساسًا للمسيرة؟
لماذا بدأ مسيرته بالإحياء الثقافي، وبالتأصيل الثقافي؟ في وقتٍ كان المتصوّر منه- وهو ابن صعدة المظلومة والمهمّشة- انتهاج الثورة المطلبية؟
“قضية صعدة”، بدلًا عن “قضية الأمة”؟
يرتبط بهذا السؤال، بالطبع، سؤالٌ آخر:
لماذا ترك منبرين موجودين بالفعل، وآمنين، وهما حزب الحق ومقعده في البرلمان؛
وانتهج عوضًا عن ذلك الطريق الخَطر الذي كانت نهايته المحتّمة- بالنسبة إليه- هي الشهادة؟
لماذا بدأ في مسيرةٍ يعلم، وبنسبةٍ عالية، أنه لن يشهد إلّا بدايتها، وأنه إذ يزرع البذرة فلن يشهد قطف الثمرة؟
تبقى بعدها أسئلةٌ بالغة الأهميّة:
هل كان يفكر بخلخلة نظام الحكم القائم، أم بخلخلة نمط التفكير السائد؟
هل كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما تلاها هي الدافع للمسيرة، أم أنّها محض حادثٍ مؤكدٍ لما كان الشهيد القائد يتصوّره سلفًا؟
هل كان “يوم القدس العالمي”، يوم إعلان الصرخة لأول مرة، هو تاريخ “انطلاق” المسيرة، أم أنه كان- فحسب- تاريخ إعلانها للناس، بعد فترةٍ طويلةٍ من البحث والتفكير والتحضير؟
هل كان يفكر بالوصول إلى الحكم؟
وإن كان، فلماذا اختار الطريق الصعب إذن؟
وإذا لم يكن الأمر كذلك:
فلماذا لم يفكّر بالوصول إليه؟ حتى من مدخلٍ- يبدو منطقيًّا- مؤداه: أن الوصول إلى الحكم بالنسبة للثورات هدفٌ أوّل، ومبدئي، لتحقيق بقيّة أهدافها في أقصر وقت؟
يبقى، بعد ذلك وقبله، سؤالٌ منطقي:
لماذا ترك الشهيد القائد كل المغريات والمزايا التي كان يملكها بالفعل، وهو المُهاب في منطقته وسليل أسرةٍ مرموقةٍ يحترمها النّاس، والده من أجلّ علماء الزيدية في عصره قدرًا ومقاما، وهو- أي الشهيد القائد- عضوٌ في مجلس النواب، وكانت السلطة تطلب منه- لا أكثر- غضّ الطرف لا الولاء، لتفتح له خزائنها ومناصبها ومنابرها، وكلّ ما يكفل له عيشًا رغيدًا وكلمةً مسموعة؟
لماذا ترك هذا كلّه واختار طريقًا قادهُ إلى جبلٍ يحاصره الأعداء من كلّ الأرجاء؟ يجوع هو وأصحابه فيقتاتون أوراق الأشجار، ماؤهم لا يروي من عطش، وأنصارهم في السجون إن صرخوا، ولا يأمنون الملاحقات حتى وإن سكتوا؟
لماذا ترك هذا كلّه مقابل “مسيرةٍ” تبدو على نقاء فكرتها محض “مغامرة”؟!
وتبدو في حينه- عند النظر في الظروف المصاحبة- حتميّة الفشل: نهجها المُعادي لعتاة الأرض مع قلّة الأنصار والموارد؛ وكذا انطلاقها من صعدة المكان المهمّش والقصيّ، فلا هي عاصمةٌ أولى ولا ثانية، لا تهتمّ بها الحكومة ولا يسمع بأخبارها النّاس!
أيًّا كانت الإجابات على الأسئلة المطروحة أعلاه، فسيبدو لك الأفق مسدودًا، تبدو المسيرة لأول وهلةٍ كما لو أنّها ولدت لكي تموت!
ستحترم “المغامرين” الذين بدأوا فيها، بلا شك!
على أنك- باستقراء الظروف آنذاك- ستعتبرهم “محض مغامرين”، لا أكثر ولا أقل!
أمّا الغريب، والأكثر إدهاشًا بالفعل، أن كلّ حركات التغيير الجذريّ في التاريخ- وبلا استثناء- تشبه المسيرة!
وعبر التّاريخ، منذ قصّة الإنسان وحتى الآن، لا يغيّر دفّته إلّا المغامرون.
المغامرون- وفق معاييرنا نحن- هم سادة التاريخ وقادته!
كلّ من واجهوا الجبروت مغامرون،
سيدنا إبراهيم إذ يواجه النمرود وحده، يوقدون له نارًا ويلقونه إليها،
هل كان- لغير العارفين- إلّا مغامرًا يُلقي بنفسه في التهلكة؟
وإن كانت النار سلامًا على سيدنا إبراهيم عليه السلام، فإنّ غلامًا- بعد سنواتٍ طويلة- واجه ذو النّواس وجنده، وحده، ثمّ إنّ السّهام لم تكن عليه سلاما، على أنّ شهادته كانت مُقدّمةً لهداية أمّة، وشرطًا ضروريًّا لاكتمال مهمّته، ونعمّا هِيْ!
الأنبياء بلا استثناء- ولا نقارن بهم أحدًا سلام الله عليهم- مُغامرون.
الأولياء وأعلام الهُدى، مُغامرون.
الثّوّار والمصلحون والفلاسفة العظام،
المؤسسون للإمبراطوريّات التي سادت ثمّ بادت، كلّهم مغامرون.
ولقراءتهم كما ينبغي فلا يحسن بك قراءة التاريخ على نحوٍ مألوف، مسطّح، واعتيادي!
بقدر ما ينبغي بك- عوضًا عن ذلك- خوض مغامرةٍ مع التاريخ، بلا مقدماتٍ مألوفةٍ وبلا تصوّرات مُسبقة.
أن تفكّر:
لا بكتابة التاريخ، وإنّما بالتفاهم معه.
لا بتدوين الأحداث، وإنما باستقراء ما كان يدور- بالفعل- في عقول صانعيها، ويؤثر على وجدانهم!
ألّا تقف، كثيرًا، عند “متى” وأين” و”مَن”،
بقدر ما تقف عند “كيف”، و “لماذا”!
وهذا ما سنحاول القيام به- إن شاء الله- في الأجزاء القادمة.